استدعاء الموروث الشعبي
في الأعمال الأدبية الإماراتية الشعرية والنثرية
نص محاضرة ألقاها أسامة فوزي في الشارقة عام 1983
ونشرت في عدة مطبوعات وصحف عربية
منها مجلة الطليعة الأدبية العراقية
في الأعمال الأدبية الإماراتية الشعرية والنثرية
نص محاضرة ألقاها أسامة فوزي في الشارقة عام 1983
ونشرت في عدة مطبوعات وصحف عربية
منها مجلة الطليعة الأدبية العراقية
بعد أن فرغت من إشارتي المجملة لأبرز المأثورات الشعبية فى الإمارات والجهود المبذولة فى توثيقها(1) تبادر إلى ذهنى تساؤل حول مدى استيعاب الأدباء فى الإمارات لهذه المأثورات فى أعمالهم الأدبية ،ومن ثم الكيفية التي وظفت بها هذه المأثورات فى إطار خدمة المضمون الأدبي ، شكلاً وموضوعاً فضلاً عن جدوى هذا التوظيف ومحصلته .
لقد أثيرت هذه القضية فى العديد من الأوساط الأدبية العربية ، وظهرت
دراسات كثيرة تسعى فى إطار هذه الظاهرة وتتقصى ملامحها فى الأعمال
الإبداعية مع اختلاف فى الأهداف ، فبعض الدراسات أرادت إغناء المدون من
المأثور الشعبى بالإشارة إلى ما يرد منة فى الأعمال الإبداعية وبعضها الآخر
أخضع هذه المدونات للدراسة والتحليل الوظيفي(2)، وكان أخرها رسالة
الدكتوراه التي وضعها الدكتور صبري مسلم عن المأثور الشعبي فى الرواية
العراقية(3) .
ومما لاجدال فيه أن أولئك الدارسين قد وجدوا كماً كبيراً من الأعمال الإبداعية التي تتضمن مأثورات شعبية ، وهو كم يسمح للناقد والباحث أن يسعى اثر الظاهرة بحرية ، بل ويمكنه لكثرتها وتعددها أن يضعها في مدارس وتيارات ، لكن الأمر بالنسبة للإمارات يبدو شاقاً ، فالأعمال الإبداعية المطبوعة التي يمكن إخضاعها للدراسة لا تزيد عن عدد أصابع اليدين ، وبعضها لا يحتمل أكثر من إشارة واحدة ،لأن المأثور الشعبي نفسه ورد عند الخاطر فى السياق لكن ذلك لا يمنع أن نبادر إلي وضع أول دراسة من نوعها ، تستقصي المأثور الشعبي فى الأعمال الإبداعية (الأدبية ) فى الإمارات وتستبطن ما وصلت إليه من أفاق على صعيدي الشكل والمضمون .
بادي ذي بدء أحب أن أشير إلى أن الأعمال الأدبية التي تتناولها هذه الدراسة بالاستقصاء والتحليل هي تلك التي وضعها كتاب وأدباء من الإمارات ،وأمكن لكاتب هذه السطور أن يطلع عليها وان يحصل على نسخ مطبوعة منها ،وإذا تصادف أن سقطت الإشارة إلى مطبوع أدبي معين رغم تضمنه مأثورات شعبية محلية فيكون ذلك عفو القصد ليس إلا (4) ، مع التأكيد بأن الأعمال الأدبية للكتاب المتجنسين قد سقطت عن عمد ، لأنها تخرج عن إطار الهدف العام من هذه الدراسة ، وهو تقصي المأثور الشعبي المحلي فى أعمال الأدباء المحليين الأصليين ، الذين عاشوا هذا المأثور وتأثروا به وأعادوا تشكيلة في أعمالهم الأدبية ... وقد نعود إلى دراسة الأعمال الأدبية للمتجنسين أو للأدباء العرب المقيمين ، الذين أشاروا بدورهم إلى المأثور الشعبي المحلي و ذلك في دراسة قادمة (5) .
الأعمال الأدبية التي سنخضعها للدراسة تتضمن رواية واحدة هي رواية ( شاهندة ) لراشد عبد الله والنسخة التي سنعتمدها هي الطبعة الثانية الصادرة في يناير 1976 عن المركز العربي للصحافة في القاهرة .. كما سنعرض لمجموعات قصصية وشعرية فضلاً عن خواطر مطبوعة على النحو التالي :-
المجموعات الشعرية
ومما لاجدال فيه أن أولئك الدارسين قد وجدوا كماً كبيراً من الأعمال الإبداعية التي تتضمن مأثورات شعبية ، وهو كم يسمح للناقد والباحث أن يسعى اثر الظاهرة بحرية ، بل ويمكنه لكثرتها وتعددها أن يضعها في مدارس وتيارات ، لكن الأمر بالنسبة للإمارات يبدو شاقاً ، فالأعمال الإبداعية المطبوعة التي يمكن إخضاعها للدراسة لا تزيد عن عدد أصابع اليدين ، وبعضها لا يحتمل أكثر من إشارة واحدة ،لأن المأثور الشعبي نفسه ورد عند الخاطر فى السياق لكن ذلك لا يمنع أن نبادر إلي وضع أول دراسة من نوعها ، تستقصي المأثور الشعبي فى الأعمال الإبداعية (الأدبية ) فى الإمارات وتستبطن ما وصلت إليه من أفاق على صعيدي الشكل والمضمون .
بادي ذي بدء أحب أن أشير إلى أن الأعمال الأدبية التي تتناولها هذه الدراسة بالاستقصاء والتحليل هي تلك التي وضعها كتاب وأدباء من الإمارات ،وأمكن لكاتب هذه السطور أن يطلع عليها وان يحصل على نسخ مطبوعة منها ،وإذا تصادف أن سقطت الإشارة إلى مطبوع أدبي معين رغم تضمنه مأثورات شعبية محلية فيكون ذلك عفو القصد ليس إلا (4) ، مع التأكيد بأن الأعمال الأدبية للكتاب المتجنسين قد سقطت عن عمد ، لأنها تخرج عن إطار الهدف العام من هذه الدراسة ، وهو تقصي المأثور الشعبي المحلي فى أعمال الأدباء المحليين الأصليين ، الذين عاشوا هذا المأثور وتأثروا به وأعادوا تشكيلة في أعمالهم الأدبية ... وقد نعود إلى دراسة الأعمال الأدبية للمتجنسين أو للأدباء العرب المقيمين ، الذين أشاروا بدورهم إلى المأثور الشعبي المحلي و ذلك في دراسة قادمة (5) .
الأعمال الأدبية التي سنخضعها للدراسة تتضمن رواية واحدة هي رواية ( شاهندة ) لراشد عبد الله والنسخة التي سنعتمدها هي الطبعة الثانية الصادرة في يناير 1976 عن المركز العربي للصحافة في القاهرة .. كما سنعرض لمجموعات قصصية وشعرية فضلاً عن خواطر مطبوعة على النحو التالي :-
المجموعات الشعرية
1. سبع قصائد من أحمد راشد ثاني إلى أمة التي لا تعرفه / احمد راشد ثاني / العربية للنشر والتوزيع /دمشق / 1981م .
2. نفحات من الخليج / عارف الشيخ عبد الله الحسن / مطبعة دبي / 1981م .
3. ذكريات / عارف الشيخ عبد الله الحسن /دار الطباعة المحمدية / القاهرة 1/1/1977م
4. المسيرة / الدكتور مانع سعيد العتيبه / الطبعة الأولى – مطابع دار الفجر / أبو ظبي / حزيران /1981م .
5. هنا بار بني عبس الدعوة عامة / حبيب الصايغ / دار الكلمة .
6. التصريح الأخير للناطق الرسمي باسم نفسه / حبيب الصايغ / دار الكلمة / 1981م .
7. بيروت 11 وجمرة العقبة / عارف الخاجة / بدون تاريخ .
8. غربة في زمن العشق / رؤى سالم / مطابع البيان / بدون تاريخ .
9. قصائد إلى بيروت / حبيب الصايغ / مركز الإنماء الثقافي –أبو ظبي الطبعة الأولى / تموز يوليو 1982م.
10. لوعة البعد / أحمد راشد سعيدان – بدون تاريخ .
حصاد السنين / الدكتور أحمد أمين المدني / المطبعة الوطنية –دبي / 1968م .
المجموعات القصصية
1. حب من نوع أخر / محمد المر / مطابع البيان / 1983م .
2. ذلك الزمان / عبد الرضا السبواني / من منشورات وزارة الإعلام / بدون تاريخ .
3. الفرصة الأخيرة / محمد المر / مطابع البيان – بدون تاريخ .
السباحة في عيني خليج تيوحش / عبد الحميد أ حمد / دار الكلمة – بيروت 1982م .
الخواطر
1. خطوة فوق الأرض / ظبية خميس / دار الكلمة – 1981م .
2. منتهى العذاب / فرح مختار / من منشورات وزارة الأعلام / المطبعة العصرية / بدون تاريخ .
3- أنا المرأة الأرض كل الضلوع / ظبية خميس / لندن – نوفمبر 1982م .
وغني عن الذكر أن تناولنا للمأثورات الشعبية الواردة في الأعمال الأدبية في الإمارات سيكون تناولاً لها بمفهومها العام الذي يعني الحياة الشعبية بكل جوانبها (حيث التناول الشامل للمادة الثقافية وتاريخها والاقتصاد والتكنيك والاستيطان والفنون والعادات والمؤسسات الاجتماعية والمعتقدات والقصص والمعرفة المأثورة وما يسمى بصفة عامة فولكلور ) وهو – كما يذكر فوزي العنتيل(6) الفخم العلمي المعاصر لعلم الفلكلور .
ومما يجدر ذكره أن استدعاء الأديب للمورث الشعبي يدخل غالباً في إطار سعيه نحو إيجاد بدائل للرمز المجرد ، بحيث يكتب الموروث الشعبي داخل العمل الأدبي حجم الرمز ويضمن بالتالي تواصلاً أكبر مع القارىْ الذي يشكل له الموروث الشعبي جزءاً من مكونات الذاكرة والوجدان وقلة قليلة تورد المأثور الشعبي رغبة في بعثه من جديد --- وبطبيعة الحال يختلف استدعاء المأثور الشعبي من كاتب إلى أخر ، ومن المؤكد أن تناول الشاعر لهذا المأثور ، ومن ثم توظيفه له في قصائده يختلف كثيراً عن تناول القاص أو الروائي ، وإن كنت أرى أن الشعراء أكثر إقبالاً على توظيف المأثور الشعبي بمفهومه العام من غيرهم .
ومن المسلم به أن دخول الموروث الشعبي بما في ذلك الأساطير إلى أدبنا العربي يعتبر دخولاً متأخراً بالقياس إلى الآداب الغربية ، لا بل يمكن القول أن التواصل الثقافي مع الغرب في نهاية القرن الماضي وأوائل هذا القرن ومن ثم الإطلاع على التجارب الأدبية في أوربا ، التي قطعت آنذاك شوطاً في عملية (معمرة) البناء الأدبي على أسس من الموروثات والأساطير ، هو العامل الرئيسي في تبلور بذور هذا التيار في أدبنا المعاصر ، وساعد في هذا التبلور ،ومن ثم تشجيع الأدباء العرب على دخول هذه المغامرة ، أتجاة طه حسين نحو الأساطير اليونانية وترجمته لها وحثه طلابه على دراستها والتعرف على خباياها وتعزز هذا الاتجاه أكثر بظهور مدرسة (أبولو) التي اتخذت من معرفة الأساطير القديمة اسماً ومنهجاً على اعتبار أنها تراث أنساني هو خلاصة تجارب الإنسان وثقافته .
ومن يبحث في البدايات سيجد أن استدعاء الموروث الشعبي في الأدب العربي كان يقتصر على الأساطير والخرافات ، وكان هذا الاستدعاء أو التوظيف ساذجاً كما نلاحظ في ملحمة (عبقر) لشفيق معلوف وغيرها من الملاحم الشعرية العربية التي أتفق النقاد على تسميتها بالمطولات الشعرية لعدم توفر عناصر الملحمة الإغريقية بينها ، وكانت هذه الملاحم قليلة ، في عددها ، وفي عدد أبياتها ، لأن النظم يخضع لعدد محدد من القوافي المنتهية بروي واحد ، وقد يصل الناظم بمطولته إلى ألف بيت ، ولكن من أين له بالألف الثانية – فضلاً عن أن التطويل كان – دائماً – يؤثر على مستوى الأبيات كما نلاحظ في (عمرية) حافظ إبراهيم أو إلياذة أحمد محرم – ولا نجد في هذه البدايات ما يستحق الذكر سوى أن الشعراء أعادوا سرد هذه الأساطير أو الحكايات نظماً ،ولم يكن استدعاء (الموروث) لهدف وظيفي وتلك إحدى سمات هذه المرحلة.
لكن مدرسة أبولو كانت أكثر نضجاً في التعامل مع الموروث الشعبي في إطار العمل الإبداعي ، حيث نجح بعض روادها في انبعاث الأسطورة داخل رحم القصيدة الشعرية ضمن إسقاط تاريخي يأخذ بعداً رمز ياً ووظيفياً يرقى بالمستوى الفني للقصيدة فضلاً عن تعميق المضمون ، وبرز علي محمود طه في هذا المجال بصفته صاحب أول محاولة حقيقية (لاستخدام الأساطير القديمة استخداماً فنياً خارج سياقها التاريخي القديم ، فقد كان يحرص في القصائد التي أقام موضوعها على أساس ميثولوجي على أن يغرق القرىْ في جو أسطوري سواء بما يجلبه من التراث اليوناني أو يضفيه عليها من خياله الرومانسي المجنح) (7).
تفاوتت عملية توظيف الموروثات الشعبية في الإمارات – في الأعمال الإبداعية – بين أديب وأخر فوجدنا توجهاً من قبل البعض نحو الأساطير حيث يتكرر ذكراها في قصائد جيب الصياغ ، ووجدنا توجهاً أخر نحو التاريخ الإسلامي – في معظم قصائد عارف الخاجة – بينما يوثق الدكتور مانع العتيبة في قصائده الموروث الشعبي من عادات وتقاليد كانت سائدة في عصر الغوص ونجد مثل ذلك في قصص محمد المر و عبد الحميد أحمد و عبد الرضا السجوانى مع تفاوت في عملية توظيف هذا الموروث .
استخدام الموروث الشعبي في الأعمال الأدبية النثرية في الإمارات يختلف بالتأكيد عن استخدامه في الأعمال الشعرية ، بخاصة وأننا لا نجد حتى ألان إنتاجا محليا علي صعيد الرواية أو القصة القصيرة ، يرقي إلى مستوي الموجه الجديدة التي يمثلها ( ماركيز ) اصدق تمثيل ، وهي الموجه التي تعرف من الموروث الشعبي والأسطوري كل عناصرها البنائية الجديدة وتمزجها بالواقع فيغدو الموروث الشعبي والأسطوري رمزا له عدة مستويات من الدلالات ، قد يكون أحياء هذا الموروث واعادة بعثة واحدا منها ، لكنه بالتأكيد أضعفها واقلها بروزا.
وغني عن الذكر أن استخدام الموروث الشعبي أو الأسطوري عند الشعراء يختلف من واحد لاخر باختلاف المستوي الثقافي والإبداعي كما انه يختلف بالنسبة لشاعر واحد تبعا لاختلاف تجربته من قصيدة إلى أخرى ، كما أن أغراض هذا الاستخدام تختلف هي الأخرى باختلاف الشعراء وثقافاتهم وتجاربهم ، فضلا عن اختلاف الظروف الموضوعية المحيطة ، وفي هذا الإطار يمكن القول أن بواعث استخدام الشاعر حبيب الصايغ من الإمارات لرمز عنترة العبسي في ديوانه ( هنا بار بني عبس الدعوة عامة ) ، وطريقة هذا الاستخدام او التوظيف تختلف قطعا عن بواعث فدوي طوقان في قصيدتها ( كوابيس الليل والنهار ) ، رغم أن القصيدتين تبعثان القصة من كومنها وتعزفان علي وتر العلاقة بين عنترة بن شداد وحبيبته عبلة وسنعود لهذه النقطة فيما بعد .
وبادئ ذي بدء علينا أن نشير إلى أن شعراء الامارات ليسوا بمنقطعين عن حركة الشعر في العالم العربي ومن ثم فأننا نجد في تجاربهم الشعرية كل المزايا والسمات الفنية التي نجدها في الشعر العربي الحديث ومنها طبعا استخدام الموروث ، وهي سمة فنية تعود إلى العصر العربي الأول حيث نجد إشارات أسطورية وخرافية كثيرة في قصائد أمية بن أبى الصلت ونجدها بشكل اقل في قصائد النابغة الذبياني وزهير بن سامي ، ولكن ظهورها الفعال والمؤثر ـ في الشعر ـ بدأ كما أسلفنا مع صدور مجلة ( ابولو ) التي كانت ترفع شعار التواصل مع الأساطير القديمة لأنها إنتاج إنساني لا يمكن تجاهلة .
أما التعاطي الجدي والفلسفي والفني العميق مع هذه الظاهرة فقد بدأ فعليا مع
بدر شاكر السياب الذي استطاع أن يوظف الأسطورة علي وجه التحديد لخدمة
المضمون الذي يريده دون أن يشعرك بتطفلها علي السياق وعلي الرغم من أهمية
هذا الموضوع ، الا انك لا تجد دراسة واحدة شاملة تتطرق إليه من كل الجوانب ،
غير دراسة الدكتور علي البطل وهي جديرة بالاطلاع والدراسة بخاصة وان
الدكتور لا يتقصي الرمز الأسطوري في شعر السياب فحسب بل ويضع منهجا يمكن أن
يفيد منه الشعراء الذين مازالوا يفضلون ارتياد هذه المجاهيل ، وغني عن
القول ان الأسطورة او الموروث الشعبي سيتحول إلى نقيصة فنيه تثقل كاهل
القصيدة اذا لم يحسن الشاعر توظيفها .
وفي هذا المجال ربط الباحث بين مراحل السياب الحياتية ومراحله الفنية التي استخدم فيها الأسطورة ...... ففي مطلع حياته السياسية ، كان السياب اشتراكيا ، لذا لجأ إلى الأساطير التي تنشر بالثورة والتغير مثل أسطورة عشتار وتموز .... وعندما أعلنت الوحدة بين مصر وسوريا كتبت السياب قصائد تحمل في طياتها رموزا يمكن إسقاطها علي الواقع ، فكثرت إشاراته لذي قار حيث الانتصار العربي علي الفرس و ( العنقاء ) الطائر الأسطوري الذي يخرج من الصحراء العربية فوق الأعاصير ... أما عندما هده المرض ظهور شخصية المسيح في قصائده يحمل الأمل والبشارة بالشفاء .. وظهرت كذلك شخصيات أيوب وعولسي وغيرهما .
من قراءة سريعة للدواوين الشعرية الصادرة في الإمارات يمكن القول ان الشعراء المحليين قد تأثروا بهذه الظاهرة السيابية ، ولكن بطريقة متفاوته ، فالشاعر عارف الشيخ يكتفي في كل دواوينه الشعرية المطبوعة بإشارة واحدة إلى أسطورة ( إيزيس ) ـ في ديوانه ذكريات ـ بينما نجد إكثارا من ذكر الأساطير في قصائد حبيب الصايغ ، حيث يرد ذكر ( بابل ) في ديوانه ( هنا بار بني عبسي ) ... فضلا عن الأساطير الدينية ، حتى انه جعل ( سفر التكوين ) عنوانا لاحدي قصائد ديوانه ( التصريح الأخير للناطق الرسمي باسم نفسه ) وهناك إشارات ليهوذا وفرعون وغيرهما فضلا عن الإشارات التاريخية الإسلامية المتمثلة بأسماء عمار بن ياسر وبلال بن رباح وأبا ذر وهند وحمزة والحسين وادم وحواء ... الخ ونجد مثل ذلك عند الشاعر عارف الخاجة فديوانه ( بيروت ) يتضمن عشرات من هذا الإشارات الإسلامية ، فهناك الاوس والخزرج وقنيقناع والنضير وعبد الرحمن الداخل والاشعري وواصل بن عطاء ..... الخ وترد أسطورة شهريار في ديوانه ( غربة في زمن العشق ) لرؤى سالم وهكذا .....
وتسهيلا لغرض هذه المأثورات والأساطير وطريقة استخدمها وتوظيفها في الشعر المحلي أرى أن أتناول كل موروث علي حده فاتقصي ظهوره في الدواوين المطبوعة واحاول أن اسبر أغواره داخل مصادره الأصلية ومن ثم التعرف علي الصلات الفنية والمضمونية التي أقامها الشاعر بين الأصل ... والواقع ... وعلي ضوء هذا ستدور الدراسة حول المحاور التالية :-
أ ـ استخدام التراث الشعبي ( الفولكلور )
ب ـ استخدام الأسطورة اليونانية أو الآشورية أو البابلية
ج ـ استخدام التراث الديني الإسلامي
د ـ استخدام التراث الديني اليهودي والمسيحي .
من المؤكد أن الشاعر يلجأ إلى استخدام الموروث الشعبي او الأسطوري او الديني في قصائده لتحقيق غاية من أربع غايات .............. من هو قد يهدف من جراء ذلك الاستخدام إلى تكريس الانتماء القومي من خلال ربط واقعة بالجذور ونحن نجد مثل هذا في قصائد الشعراء الفلسطينيين ، بخاصة وانهم يخوضون صراعا حضاريا وقوميا مع الحركة الصهيونية التي تحاول ادعاء كل شيء لنفسها ، حتى الثوب الفلسطيني .......... وقد يكون استخدام الموروث بهدف تحقيق أقصى درجات الأمان الشخصي ( التقنية ) ، بخاصة في الدول التي تحجر علي الفكر والكلمة ، فيلجأ الشاعر إلى الموروث الشعبي لتوظيف دلالاته ورموزه المعروفة لنقد الأوضاع دون أن يخاطر بأمنه الشخصي وهناك غاية ثالثة ، فنية خالصة ، وهي محاولة النهوض بتقنية القصيدة من خلال تفجير رموز جديدة لها ارتباط بالوجدان الشعبي وغير مجردة عن هذا الوجدان .. وهناك غاية رابعة كانت محورا أساسيا لمدرسة ( ابولو ) وهي بعث الموروث من جديد وتعريف الاخرين به.... وفي ركب هذا الاتجاه تسير تجربة الدكتور مانع العتيبة الشعرية في ديوانه ( المسيرة ) .
ديوان المسيرة لمانع العتيبة
الشاعر نفسه يعترف في المقدمة التي كتبها لديوانه بهذه الغاية فهو يريد ان يقوم بعمل شعري يحكي قصة بلاده ومسميتها الطويلة خلال العصور التي تعاقبت علي هذه الأرض الطبية ... ويضيف الدكتور أن قصدته الطويلة ـ ويسميها الملحمة ـ تروي قصة شعب الإمارات من خلال ثلاث مراحل تاريخية .... تمثل الأولى عصر اللؤلؤ حيث يتم البحث عنه في فصل الصيف بينما يجد أبناء المنطقة الوقت لممارسة هوايتهم المفضلة وهي الصيد بالصقور ... والمرحلة الثانية تتمثل في الفترة الزمنية التي فصلت بين عصر اللؤلؤ وعصر البترول " .وهي الفترة التي عمي فيها البلاد كساد اقتصادي وتمثل الثالثة عصر البترول " .
وأكثر من هذا فأننا نجد في المقدمة شرحا لرموز القصيدة فالأسرة التي تحكي الملحمة قصتها تتكون من الأولاد ويرمزون إلى الشعب ومن إلام وترمز إلى الأرض ....... الخ ثم يستطرد الشاعر في شرح ( حقائق تاريخية ) عن تلك الفترة .
ومع أنى اختلف مع الشاعر في وصفه لقصيدته المطولة بالملحمة ، إذ أن للملاحم سماتها التي لا نجدها ألا عند الإغريق ، ذلك أن الملحمة تفترض عالما أسطوريا وخرافيا وخارقا تدور فيه ، ومع أنى أميل إلى تسمية القصيدة بالمطولة القصصية أو الحكاية القصصية المنظومة ، ألا أني اتفق مع الشاعر في رؤيته للقصيدة ورموزها الظاهرة التي لا تحتمل اكثر مما هو ظاهر فيها ، فالرمز هنا ، واستلام الموروث ، لا يهدف إلى تقية بقدر ما يهدف إلى خلق نواة درامية ينسج الشاعر حولها قصة من الواقع ، وبدل آن يباشرنا به ، اتخذ من أسرة بسيطة رمزا للوطن وجعل يسرد لنا الموروث الشعبي في إطاره وتسلسلة التاريخي ، ليقدم ما يشبه الوثيقة التاريخية الشعرية .
ومن هنا كان لزاما علي الشاعر أن يعزف كلماته وصورة من الموروث الشعبي ( الفولكلور ) الذي يمثل لحمة وسداة المرحلتين الأولى والثانية من حياة المنطقة وقد فعل ذلك ، حيث ورد ذكر الغوص علي اللؤلؤ في الصفحات 8 ، 19 ، 26 ومخاطر البحر في صفحة 13 وحديث النخيل في صفحة 16 والصيف في الصفحة 19 وعادات السفر وركوب البحر في صفحة 21 بما تتضمنه من تقاليد غنائية شعبية وغيرها ، فنجد ـ مثلا ـ ذكرا للنهام في الصفحتين 23 ، 25 ونجد وصفا تفصيليا دقيقا لعملية الغوص علي اللؤلؤ في صفحة 26 وصفا للعودة من البحر في صفحة 30 وذكرا للافلاج في صفحة 33 والصيد بالصقور في صفحة 37 كما نجد وصفا لحالة الناس أبان القحط الذي أصاب البلاد في صفحة 40 وهكذا .
أن إيراد أو استدعاء الموروث الشعبي كان هدفا بحد ذاته ، لذا نجد ان القصيدة مجبولة به ، ومع كثرة المفردات والموروثات والإشارات الفلكلورية لن نجد رموزا أخري تقف وراءها غير ما ذكرناه وذكره الشاعر في مقدمته ، بمعني أن بعث الموروث الشعبي كما هو في ظاهرة ، فضلا عن توثيقه وارشفته ، كان أساسا بنيت عليه هذه المطولة .
بقي أن نشير ألي أن الشاعر يمتلك ـ علي صعيد الشكل ـ القوافي حيث تتداعي بين يديه في منظومة واحدة ، ولعله في تغييره للقافية والروي بين فقرة واخري كان يهدف إلى إكساب المطولة جوا دراميا متجاوبا يتواءم من النسق القصيصي الذي أراده . لا يمكن اختزال تجربة حبيب الصايغ الشعرية في مقالة واحدة ، بخاصة وان حبيب الصايغ في ديوانه ( التصريح الأخير للناطق باسم نفسه ) هو غيره في ديوانه ( هنا بار بني عبسي والدعوة عامة ) ثم هو شخص ثالث في ( قصائد من بيروت ) ، لكن الإطار الهام للتجربة واحد ، ويتلخص هذا الإطار في النقاط التالية :-
1- تجربة حبيب الصايغ علي الصعيد التقيني ولدت ناضجة وان كانت مضامنية تتراوح بين النضج وبين العادي .
2- يسيطر الشاعر علي الوزن الشعري ولا يقع في أغلاط نحوية أو عروضية ، وسيطرة الشاعر علي وزن الشعري تعني انه لاينقاد إلى الموسيقي بل هي تنقاد إليه .
3- يعزم الشاعر باستلهام الموروث الأسطوري والديني والتاريخي ومن ثم إسقاطه علي الواقع وإكسابه حجم الرمز ، وهذه النقطة بالتحديد هي محور اهتمام هذه المقالة في إطار العنوان الكبير الذي وضعناه لهذه السلسلة وهي استخدام الموروث في الأعمال الشعرية لشعراء الإمارات .
دواوين حبيب الصايغ
الانطباع الأول الذي يخرج به قارئ الدواوين الثلاثة لحبيب الصايغ يتلخص في التساؤل حول أسباب نجاح الشاعر في ديوانه ( هنا بار بني عبسي ) في توظيف المأثور الشعبي التاريخي المتمثل بحكاية عنتر وعبلة ، ثم أسباب فشلة في استلهام الأساطير والموروثات الدينية الإسلامية واليهودية والميسحية في ديوانه الثاني ( التصريح الأخير للناطق الرسمي باسم نفسه ) .
وشخصه عنترة العبسي من الشخصيات الأدبية التاريخية الحقيقية ، اختلطت مع الخرافة والخوارق في وجدان الناس ، وسبب ذلك ما يروي عن حبه لابنه عمه عبلة بنت مالك ، وتذكر الحكايات أن مهر عبلة ذاد عن ألف ناقة عصفورية لا تواجد إلا في حوزة ملوك الحيرة ذوي البأس الشديد ، أحضرها عنترة بعد سلسلة من الأحداث والمغامرات دخلها الكثير مما لا يتقبله عقل ، وتصف كتب التاريخ عنترة بأوصاف كثيرة ، منها الفروسية والشاعرية والنجدة والإخلاص والولاء ، وتحكي هذه الكتب والأشعار المنسوبة اليه جزءا من همومة ومعاناته الشخصية فمع أن أباه كان من اشرف قبيلة عبس ، ألا أن أمه حبشية كانت تدعي ( زبيبة ) وتمشيا مع أعراف القبيلة فان والد عنترة لم يعترف بأبوته بل اعتبره عبدا من عبيده وعلي عادة القبيلة كان هناك حالة واحدة للاعتراف به ابنا وهي ان يثبت شجاعته .
معظم الشعراء العرب الذين وظفوا هذه الأسطورة التاريخية ذات الجذور الحقيقية في أشعارهم اكتفوا ببعد واحد هو علاقة عنترة بعبلة ، فها هي فدوي طوقان في ديوانها ( علي قمة الدنيا وحيدا ) وفي إطار توجهما نحو تكريس الفداء الفلسطيني تستحضر الحكاية في قصيدتها ( كوابيس الليل والنهار ) وتسقطها علي الواقع الفلسطيني من خلال خلق تعادل رمزي بين الفدائي ( عنترة ) واخلاصه وحبه المتناهي لفلسطين ( عبلة ) وظل هذا المستوي من العلاقة بين الواقع والتاريخ يدور في هذا الإطار حتى اكسب بقية أفراد القبيلة رموزها الحاضرة ..... ففي هذه الحالة يكون ( بنو عبس ) الذين ( طعنوا ظهري في ليلة عدد ظلماء ) هم العرب ..... ويكون زوج عبلة ( ورد )هو العدو الصهيوني ( عنترة العبسي ينادي من خلف السور
يا عبل تزوجك الغرباء واني العاشق ) .
وفي هذا المجال ربط الباحث بين مراحل السياب الحياتية ومراحله الفنية التي استخدم فيها الأسطورة ...... ففي مطلع حياته السياسية ، كان السياب اشتراكيا ، لذا لجأ إلى الأساطير التي تنشر بالثورة والتغير مثل أسطورة عشتار وتموز .... وعندما أعلنت الوحدة بين مصر وسوريا كتبت السياب قصائد تحمل في طياتها رموزا يمكن إسقاطها علي الواقع ، فكثرت إشاراته لذي قار حيث الانتصار العربي علي الفرس و ( العنقاء ) الطائر الأسطوري الذي يخرج من الصحراء العربية فوق الأعاصير ... أما عندما هده المرض ظهور شخصية المسيح في قصائده يحمل الأمل والبشارة بالشفاء .. وظهرت كذلك شخصيات أيوب وعولسي وغيرهما .
من قراءة سريعة للدواوين الشعرية الصادرة في الإمارات يمكن القول ان الشعراء المحليين قد تأثروا بهذه الظاهرة السيابية ، ولكن بطريقة متفاوته ، فالشاعر عارف الشيخ يكتفي في كل دواوينه الشعرية المطبوعة بإشارة واحدة إلى أسطورة ( إيزيس ) ـ في ديوانه ذكريات ـ بينما نجد إكثارا من ذكر الأساطير في قصائد حبيب الصايغ ، حيث يرد ذكر ( بابل ) في ديوانه ( هنا بار بني عبسي ) ... فضلا عن الأساطير الدينية ، حتى انه جعل ( سفر التكوين ) عنوانا لاحدي قصائد ديوانه ( التصريح الأخير للناطق الرسمي باسم نفسه ) وهناك إشارات ليهوذا وفرعون وغيرهما فضلا عن الإشارات التاريخية الإسلامية المتمثلة بأسماء عمار بن ياسر وبلال بن رباح وأبا ذر وهند وحمزة والحسين وادم وحواء ... الخ ونجد مثل ذلك عند الشاعر عارف الخاجة فديوانه ( بيروت ) يتضمن عشرات من هذا الإشارات الإسلامية ، فهناك الاوس والخزرج وقنيقناع والنضير وعبد الرحمن الداخل والاشعري وواصل بن عطاء ..... الخ وترد أسطورة شهريار في ديوانه ( غربة في زمن العشق ) لرؤى سالم وهكذا .....
وتسهيلا لغرض هذه المأثورات والأساطير وطريقة استخدمها وتوظيفها في الشعر المحلي أرى أن أتناول كل موروث علي حده فاتقصي ظهوره في الدواوين المطبوعة واحاول أن اسبر أغواره داخل مصادره الأصلية ومن ثم التعرف علي الصلات الفنية والمضمونية التي أقامها الشاعر بين الأصل ... والواقع ... وعلي ضوء هذا ستدور الدراسة حول المحاور التالية :-
أ ـ استخدام التراث الشعبي ( الفولكلور )
ب ـ استخدام الأسطورة اليونانية أو الآشورية أو البابلية
ج ـ استخدام التراث الديني الإسلامي
د ـ استخدام التراث الديني اليهودي والمسيحي .
من المؤكد أن الشاعر يلجأ إلى استخدام الموروث الشعبي او الأسطوري او الديني في قصائده لتحقيق غاية من أربع غايات .............. من هو قد يهدف من جراء ذلك الاستخدام إلى تكريس الانتماء القومي من خلال ربط واقعة بالجذور ونحن نجد مثل هذا في قصائد الشعراء الفلسطينيين ، بخاصة وانهم يخوضون صراعا حضاريا وقوميا مع الحركة الصهيونية التي تحاول ادعاء كل شيء لنفسها ، حتى الثوب الفلسطيني .......... وقد يكون استخدام الموروث بهدف تحقيق أقصى درجات الأمان الشخصي ( التقنية ) ، بخاصة في الدول التي تحجر علي الفكر والكلمة ، فيلجأ الشاعر إلى الموروث الشعبي لتوظيف دلالاته ورموزه المعروفة لنقد الأوضاع دون أن يخاطر بأمنه الشخصي وهناك غاية ثالثة ، فنية خالصة ، وهي محاولة النهوض بتقنية القصيدة من خلال تفجير رموز جديدة لها ارتباط بالوجدان الشعبي وغير مجردة عن هذا الوجدان .. وهناك غاية رابعة كانت محورا أساسيا لمدرسة ( ابولو ) وهي بعث الموروث من جديد وتعريف الاخرين به.... وفي ركب هذا الاتجاه تسير تجربة الدكتور مانع العتيبة الشعرية في ديوانه ( المسيرة ) .
ديوان المسيرة لمانع العتيبة
الشاعر نفسه يعترف في المقدمة التي كتبها لديوانه بهذه الغاية فهو يريد ان يقوم بعمل شعري يحكي قصة بلاده ومسميتها الطويلة خلال العصور التي تعاقبت علي هذه الأرض الطبية ... ويضيف الدكتور أن قصدته الطويلة ـ ويسميها الملحمة ـ تروي قصة شعب الإمارات من خلال ثلاث مراحل تاريخية .... تمثل الأولى عصر اللؤلؤ حيث يتم البحث عنه في فصل الصيف بينما يجد أبناء المنطقة الوقت لممارسة هوايتهم المفضلة وهي الصيد بالصقور ... والمرحلة الثانية تتمثل في الفترة الزمنية التي فصلت بين عصر اللؤلؤ وعصر البترول " .وهي الفترة التي عمي فيها البلاد كساد اقتصادي وتمثل الثالثة عصر البترول " .
وأكثر من هذا فأننا نجد في المقدمة شرحا لرموز القصيدة فالأسرة التي تحكي الملحمة قصتها تتكون من الأولاد ويرمزون إلى الشعب ومن إلام وترمز إلى الأرض ....... الخ ثم يستطرد الشاعر في شرح ( حقائق تاريخية ) عن تلك الفترة .
ومع أنى اختلف مع الشاعر في وصفه لقصيدته المطولة بالملحمة ، إذ أن للملاحم سماتها التي لا نجدها ألا عند الإغريق ، ذلك أن الملحمة تفترض عالما أسطوريا وخرافيا وخارقا تدور فيه ، ومع أنى أميل إلى تسمية القصيدة بالمطولة القصصية أو الحكاية القصصية المنظومة ، ألا أني اتفق مع الشاعر في رؤيته للقصيدة ورموزها الظاهرة التي لا تحتمل اكثر مما هو ظاهر فيها ، فالرمز هنا ، واستلام الموروث ، لا يهدف إلى تقية بقدر ما يهدف إلى خلق نواة درامية ينسج الشاعر حولها قصة من الواقع ، وبدل آن يباشرنا به ، اتخذ من أسرة بسيطة رمزا للوطن وجعل يسرد لنا الموروث الشعبي في إطاره وتسلسلة التاريخي ، ليقدم ما يشبه الوثيقة التاريخية الشعرية .
ومن هنا كان لزاما علي الشاعر أن يعزف كلماته وصورة من الموروث الشعبي ( الفولكلور ) الذي يمثل لحمة وسداة المرحلتين الأولى والثانية من حياة المنطقة وقد فعل ذلك ، حيث ورد ذكر الغوص علي اللؤلؤ في الصفحات 8 ، 19 ، 26 ومخاطر البحر في صفحة 13 وحديث النخيل في صفحة 16 والصيف في الصفحة 19 وعادات السفر وركوب البحر في صفحة 21 بما تتضمنه من تقاليد غنائية شعبية وغيرها ، فنجد ـ مثلا ـ ذكرا للنهام في الصفحتين 23 ، 25 ونجد وصفا تفصيليا دقيقا لعملية الغوص علي اللؤلؤ في صفحة 26 وصفا للعودة من البحر في صفحة 30 وذكرا للافلاج في صفحة 33 والصيد بالصقور في صفحة 37 كما نجد وصفا لحالة الناس أبان القحط الذي أصاب البلاد في صفحة 40 وهكذا .
أن إيراد أو استدعاء الموروث الشعبي كان هدفا بحد ذاته ، لذا نجد ان القصيدة مجبولة به ، ومع كثرة المفردات والموروثات والإشارات الفلكلورية لن نجد رموزا أخري تقف وراءها غير ما ذكرناه وذكره الشاعر في مقدمته ، بمعني أن بعث الموروث الشعبي كما هو في ظاهرة ، فضلا عن توثيقه وارشفته ، كان أساسا بنيت عليه هذه المطولة .
بقي أن نشير ألي أن الشاعر يمتلك ـ علي صعيد الشكل ـ القوافي حيث تتداعي بين يديه في منظومة واحدة ، ولعله في تغييره للقافية والروي بين فقرة واخري كان يهدف إلى إكساب المطولة جوا دراميا متجاوبا يتواءم من النسق القصيصي الذي أراده . لا يمكن اختزال تجربة حبيب الصايغ الشعرية في مقالة واحدة ، بخاصة وان حبيب الصايغ في ديوانه ( التصريح الأخير للناطق باسم نفسه ) هو غيره في ديوانه ( هنا بار بني عبسي والدعوة عامة ) ثم هو شخص ثالث في ( قصائد من بيروت ) ، لكن الإطار الهام للتجربة واحد ، ويتلخص هذا الإطار في النقاط التالية :-
1- تجربة حبيب الصايغ علي الصعيد التقيني ولدت ناضجة وان كانت مضامنية تتراوح بين النضج وبين العادي .
2- يسيطر الشاعر علي الوزن الشعري ولا يقع في أغلاط نحوية أو عروضية ، وسيطرة الشاعر علي وزن الشعري تعني انه لاينقاد إلى الموسيقي بل هي تنقاد إليه .
3- يعزم الشاعر باستلهام الموروث الأسطوري والديني والتاريخي ومن ثم إسقاطه علي الواقع وإكسابه حجم الرمز ، وهذه النقطة بالتحديد هي محور اهتمام هذه المقالة في إطار العنوان الكبير الذي وضعناه لهذه السلسلة وهي استخدام الموروث في الأعمال الشعرية لشعراء الإمارات .
دواوين حبيب الصايغ
الانطباع الأول الذي يخرج به قارئ الدواوين الثلاثة لحبيب الصايغ يتلخص في التساؤل حول أسباب نجاح الشاعر في ديوانه ( هنا بار بني عبسي ) في توظيف المأثور الشعبي التاريخي المتمثل بحكاية عنتر وعبلة ، ثم أسباب فشلة في استلهام الأساطير والموروثات الدينية الإسلامية واليهودية والميسحية في ديوانه الثاني ( التصريح الأخير للناطق الرسمي باسم نفسه ) .
وشخصه عنترة العبسي من الشخصيات الأدبية التاريخية الحقيقية ، اختلطت مع الخرافة والخوارق في وجدان الناس ، وسبب ذلك ما يروي عن حبه لابنه عمه عبلة بنت مالك ، وتذكر الحكايات أن مهر عبلة ذاد عن ألف ناقة عصفورية لا تواجد إلا في حوزة ملوك الحيرة ذوي البأس الشديد ، أحضرها عنترة بعد سلسلة من الأحداث والمغامرات دخلها الكثير مما لا يتقبله عقل ، وتصف كتب التاريخ عنترة بأوصاف كثيرة ، منها الفروسية والشاعرية والنجدة والإخلاص والولاء ، وتحكي هذه الكتب والأشعار المنسوبة اليه جزءا من همومة ومعاناته الشخصية فمع أن أباه كان من اشرف قبيلة عبس ، ألا أن أمه حبشية كانت تدعي ( زبيبة ) وتمشيا مع أعراف القبيلة فان والد عنترة لم يعترف بأبوته بل اعتبره عبدا من عبيده وعلي عادة القبيلة كان هناك حالة واحدة للاعتراف به ابنا وهي ان يثبت شجاعته .
معظم الشعراء العرب الذين وظفوا هذه الأسطورة التاريخية ذات الجذور الحقيقية في أشعارهم اكتفوا ببعد واحد هو علاقة عنترة بعبلة ، فها هي فدوي طوقان في ديوانها ( علي قمة الدنيا وحيدا ) وفي إطار توجهما نحو تكريس الفداء الفلسطيني تستحضر الحكاية في قصيدتها ( كوابيس الليل والنهار ) وتسقطها علي الواقع الفلسطيني من خلال خلق تعادل رمزي بين الفدائي ( عنترة ) واخلاصه وحبه المتناهي لفلسطين ( عبلة ) وظل هذا المستوي من العلاقة بين الواقع والتاريخ يدور في هذا الإطار حتى اكسب بقية أفراد القبيلة رموزها الحاضرة ..... ففي هذه الحالة يكون ( بنو عبس ) الذين ( طعنوا ظهري في ليلة عدد ظلماء ) هم العرب ..... ويكون زوج عبلة ( ورد )هو العدو الصهيوني ( عنترة العبسي ينادي من خلف السور
يا عبل تزوجك الغرباء واني العاشق ) .
يحسب لحبيب الصايغ انه في مطولته ( هنا بار بني عبس الدعوة عامة )التي تقع
في 715 سطرا شعريا وتشكل وحدها الديوان الشعري الأول له يقع في 59 صفحة من
القطع الصغير ، أقول : يحسب لحبيب الصايغ انه تعامل مع هذه الأسطورة
التاريخية بجميع أبعادها الرمزية وليس ببعد واحد فقط ، وقد سمح له طول
القصيدة المتناهي ان يغوص في كل خصوصيات هذه الحكاية الأسطورية وان يترجمها
إلى رموز وأن يسقطها علي ارض الواقع في تناغم حافظ فيه الشاعر علي النسق العام للحكاية .... وربطه برموز من الحاضر .... وكان تعامله مع أبعاد شخصية عنترة تأخذ بعين الاعتبار عدة مستويات .:-
• فعنترة رمز للفروسية والشجاعة .
• وهو رمز للحب والإخلاص .
• وهو رائد من رواد الحب العذري .
• وهو شاعر
• وهو عفيف النفس رقيق الأحاسيس
• وهو ( أهم فارس احتفظت به ذاكره العرب في أجيالهم التالية إلى يومنا هذا ) ـ كما يقول الدكتور شوقي ضيف
• وهو العبد الذي يسعي إلى الحرية .
• وهو محرر العبيد .
• وبالمقابل فان عبلة رمز للطهارة والجمال .
• وعبسي رمز لنكران الجميل .
• وزبيبة رمز للعطاء والخلق .
• وشداد العبسي رمز لسيطرة عقل القبيلة .
• وشيبوب رمز للوفاء الأخوي
كل هذه الأبعاد تجدها في قصيدة حبيب الصايغ ، وحتى في عنوانها ( هنا بار بني عبس الدعوة عامة ) الذي يستفزك ويسلمك مفاتيح الرمز في القصيدة ..... تاريخ القبيلة اصبح مشربا للعابدين والدعوة عامة بكل مجانيتها ..... الإسقاط التاريخي في القصيدة يمر في دوائر ثلاث بينها تماس مباشر :
• دائرة ذاتية هي انعكاس لتجربة شخصية جدا .
• دائرة اجتماعية هي الوليد الشرعي للمعايشة الحقيقية للظروف الموضوعية المحيطة .
• دائرة إنسانية يكتمل بها الإطار .
تبدأ القصيدة بافتتاحية الوحدة والضياع والقلق التي يعيشها عنترة العربي في حاضرة :-
تشاغبني البيد في ذروة الوحدة العاقلة
وزوادتي فوق ظهري
وعمري نفق
ظلام تمدد في الوقت ثم احترق
ولا شيء حولي سواي
وظلي ..... يراودني عن نقائي الجريح
ويلفظ باقي الرمق
هذه الافتتاحية لا تطول ، حيث يبدأ التاريخ يتسرب إلها من خلال شخصياته الشهيرة ( ابن ماجد) ، ( القراصنة ) ، ( زبيبة ) ، عبسي ( خراسان ) ، ( مكة ) ...... الخ .
بين الدائرتين الأولى ، حيث الذات والوحدة والضياع ، والثانية ، حيث التاريخ يشارك الشاعر همومه ، تظل معزوفة الوحدة تتردد :-
وحيد أنا
ضائع كالفصول الشريدة
ان الرثاء انتهاء الحضارات
فلتربطوني الي شاهد القبر
كيما اغني
في وعي عنترة العربي كانت عبلة ـ ومعادلها الوطن ، الحرية ـ بمثابة الحلم ، الذي يمكن الوصول إليه وتحقيقه ، بتجاوز الواقع ، فهل استطاع عنترة العبسي ، العبد الأسود ،الحبشي ، أن يتجاوز واقعه الاجتماعي وقانونه الصارم :-
تطلين يا عبل
يحتضر النبض
بين شفاه القبيلة
يخلع وجهك جلد الحريم
ويستيقظ الشبق المدلهم
وينبت في الطين حلم
ويذبل في الجو غيم
وتمتد بين السرات وبين الدخان
جسور من الوهم
هل أنت يا عبل وهم ؟
في قصيدة فدوي طوقان كان الرمز تعادليا كما رأينا ، فعنترة هو الفدائي وعبلة هي فلسطين ... أما هنا فالأبعاد والرموز تتداخل وتعطي اكثر من احتمال ، قد تكون عبلة هي الرمز المقابل للثورة أو الخلاص أو الحرية أو الوطن ، لا ندري ، فالمعادلة عند الصايغ ليست هندسية تطابقية وأنا هي ـ كما قلنا ـ إيحاء بحالة وإرهاص بوجدان ..... عبلة في النهاية هي الحلم ، وإذا كان عنترة قد استطاع أن يختزل المسافة ما بين الحلم والواقع رغم قوانين القبيلة فما يمنع ألان تكرار المحاولة !!
أن ميزة الشاعر حبيب الصايغ في تعاملة مع حكاية ( عنترة وعبلة ) تكمن في قدرته علي بعث دلالات كثيرة تنجم في سياقها العام مع الواقع ، ـ حيث تحقق الحوار بين الماضي والحاضر فتوفرت بذلك خاصية درامية لعمله الشعري ساعدته علي التطويل المشار اليه والذي غطي مختلف الأبعاد الإنسانية فمر الحكاية ....... كل ذلك ضمن توازن في إقامة هذا الحوار بحيث لا يطغي السياق علي الرمز ولا يطعني الرمز علي الواقع .
أن نجاح الشاعر حبيب الصايغ في استدعاء شخصيات عنترة العبسي ومن معه هو الذي يدفعنا إلى الدهشة من فشل الشاعر نفسه في استدعاء الأسطورة والشخصيات التوراتية والإسلامية في ديوانه الثاني ، فأين الحلقة المفقودة وكيف تسني للشاعر أن ينجح في عمله الشعري الأول ويفشل في الثاني ؟! في قصيدته الأولى ( قراءة جديدة في سفر التكوين ) من ديوانه الثاني ( التصريح الأخير للناطق الرسمي باسم نفسه ) يستدعي الشاعر حبيب الصايغ رمزا من رموز التوراة هو ( سفر التكوين ) ويجعله عنوانا لقصيدته ، فضلا عن نثر بعض عناصره داخل رحم القصيدة ..... مثل ( جنات عدن ) و ( الطوفان ) .
وغني عن الذكر أن للرمز الأسطوري أو الديني ـ كما يقول الدكتور علي البطل ـ دلالته الخاصة السابقة علي العمل الفني الجديد ولن يتاح للشاعر تفجير الدلالة المطلوبة في عمله الفني ألا عندما يوائم بين الرمز والسياق الذي يضمنه له ، يكون الرمز أداة تؤكد المشاعر التي يريد الشاعر أثارتها في القصيدة وهي معادلة تمكن حبيب الصايغ من تحقيقها في استحضاره لشخصية عنترة بن شداد كما بينا في السابق لكنه هنا في ديوانه الثاني يخفق الشاعر في إيجاد هذه المعادلة ، حيث لا يستطيع القاري أن يكتشف الوشائج التي تربط بين الحالة الشعرية الحارة والرمز التوراتي في ( سفر التكوين ) .
وسفر التكوين كما نعلم هو واحد من الأسفار الخمسة الأولى والقديمة في العهد القديم ويضم قصة الخلق والطوفان وبناء برج بابل ، ومع أننا نؤمن بان التوراة نزلت علي موسي بوحي سماوي ألا أن جميع المؤرخين ـ ومنهم بعض اليهود ـ اتفقوا علي ان تحريفا كبيرا دخل عليها ومنهم من يشكك بالأسفار نفسها ، وقد وردت إشارة إلى هذا التحريف في القران الكريم ( يكتبون الكتاب بأيديهم ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ) وقد أصاب التحريف كل أسفار العهد القديم ، والعهد القديم ـ كما هو معروف ـ ينتهي في التسلسل التاريخي عند ظهور المسيح ، وقد اتفق العلماء علي ان معظم روايات سفر التكوين وبقية الأسفار منقولة عن قصص وأساطير بابلية قديمة جري تحويرها بحيث تتماشي مع مزاعمهم مثل سفر الخروج.
سفر استير ، سفر الأمثال ، سفر أيوب ، سفر راعوث ..... الخ .
هذا يعني أن أي استدعاء للرموز التوراتية يجب أن يأخذ بعين الاعتبار هذه الحقيقة ، حتى لا يقع الشاعر بدون قصد في خطأ تكريسي هذه الرموز المحرفة ، كما أن استدعاء هذه الرموز يجب آن يتم وفق اختيار دقيق لعناصرها لا أن يتم الاستدعاء بشكل مطلق علي النحو الذي نراه في قصيدة حبيب الصايغ ، فهو هنا يجعل ( سفر التكوين ) افتتاحية وعنوانا للقصيدة ، وقارئ القصيدة يفترض أن يجد بعض الوشائج بين عناصر سفر التكوين وبين الحاضر الذي يريده الشاعر ، ولكنه يعجز عن إيجاد معادلة واحدة بين القطبين ، فسفر التكوين يحاول ان يرسم بداية للخلق من خلال مزاعم كثيرة محرفة ، بينما تتحدث قصيدة الصايغ عن العاصمة ( التي تتشكل عاصمة بلهاء وسكانا منفيين وأطيارا نسيت شكل البحر ) ... فما الذي يريده الشاعر أذن من ( سفر التكوين ) وما الرمز الذي أراده ؟!
لقد لاحظت أن معظم الإشارات الأسطورية أو التوراتية التي ترد في قصائد حبيب الصايغ لا توظف في السياق كما يجب ، لذا تبدو طارئة وداخلة عليه ، بهدف الزخرفة والتزيين ليس ألا ، ففي ديوانه الأول ( هنا بار بني عبس ) يرد ذكر ( بابل ) في قوله :-
هربني من خراسان شيخ خرير
وابنائي في الطريق بأسرار بابل
والأولين
وبسمل
ثم توضأ بالموج في لحظة المد
ساءلين :
أين مكة في العالمين ؟
أن فهم الأسطورة شرط أساسي يسبق استدعاء عناصرها في القصيدة ، وأسطورة ( بابل ) ذات أبعاد رمزية متعددة ، فهي عاصمة حمورابي المشهور بفتوحاته وقوانينه وفيها ( البرج) الذي ورد ذكره في التوراة ... وهي المدينة التي كانت منفي لليهود عندما سباهم إليها بنوخذ نصر ودمر هيكلهم في القدس ، فأين الرموز التي أرادها حبيب الصايغ في قصيدته وما العلاقة التي تربط بين ( بابل ) و ( خراسان ) ؟!
لقد أصبحت ( بابل ) رمزا للخطيئة بفعل الحقد اليهودي المتأصل لها ، لأنها شهدت سبيهم وذلهم ، وقد انعكس هذا الحقد في ( سفر التكوين ) حيث يدعي اليهود أن الرب دمر برجها وشرد شعبها وبلبل لفتها فسميت ببابل ، ثم هي رمز للعدالة المتمثلة بقوانين حمورابي وشريعته فأي الرمزين أراد الشاعر في قصيدته ، وما اوجه الشبه بين بابل ومكة وخراسان ؟!
في قصيدته ( عزف منفرد علي البرج ) من ديوانه الثاني ( التصريح الأخير ) أدانه لهذا ( الزمن المذعور ) و ( المسكون بإلهة الحرب ) وهي أدانه يوردها الشاعر في اطار إحساسه . المفرط بالغربة في هذه ( المدنية ) التي ( بلغت قيمتها المثلي ) ثم يعرج الشاعر علي ذكر علاقة فرعون بموسى :
ارسم خاصرتي
نقشا فرعونيا فوق السكين
فينزف موسي دمعا ......... الخ
في هذه القصيدة إشارة لقصة قابيل وهابيل ...... والسؤال الذي يلح علي القارئ هو : ما العلاقة بين حالة الاغتراب التي يعتبر عنها الشاعر في قصيدته وبين الرموز والدلالات التي يمكن أن نفهمها من قصة موسي والفرعون رمسيس أو قصة قابيل وهابيل ؟!
لعل الشاعر أراد من تضمينه لها تين القصتين الإشارة إلى الدلالة الرمزية التي ارتبطت بهما وهي ( الشر ) .... فرمسيس كاد لموسى ... وقابيل قتل هابيل لما رأي انه قد تقبل قربان أخيه دون قربانه .... ولعل الشاعر أراد دلالة أخرى غير تلك ، غالبا ما ترتبط بهاتين القصتين وهي الرموز التي ترتبط بالثعبان في قصة موسي والغراب في قصته قابيل وهابيل !! الاحتمالات كثيرة .... ومتعددة بتعدد التفسيرات والتأويلات والشروحات التي ترتبط بكل قصة علي حدة ، والتي لم نتمكن من استشفاف عناصرها في القصيدة ، فنحن لا ندري هل أشار الشاعر الي قصه قابيل وهابيل كما وردت في سورة المائدة ام انه أشار إليها كما وردت في الإصحاح الرابع من سفر التكوين وبين القصتين خلاف كبير .
في هذه القصيدة يرد ذكر الأسطورة الدينية دون تحريك الرمز أو توظيفه لاثراء الحالة الشعرية بدلالاته والسب عدم تمثل الشاعر لها .في الديوان الثاني للشاعر ( التصريح الأخير ) توظيف غير ناجح للرموز الأسطورية والتوراتية ، حيث يظل ذكر اسم ( يهوذا ) في صفحة 28 خارج نطاق التجربة الشعرية المعاصرة فضلا عن الإشارات التي عرجنا عليها وهي سفر التكوين في صفحة 8 وفرعون في صفحة 59 وحواء وادم في صفحة 73 وجنات عدن في صفحة 10 والطوفان في صفحة 14 وقابيل في صفحة 114 وموسى في صفحة 118 ، لكن الشاعر ينجح وفي الديوان نفسه تمثل القصص الدينية والتاريخية الإسلامية والتاريخية وتوظيفها بدلالاتها المختلفة في الصفحة في القصيدة ، ولعل هذا يعود لمعرفة الشاعر بعناصر وتفاصيل هذه القصص ، بحكم تخصصه ، ثم بحكم تكوينه الثقافي والديني حيث ترد رموز هذه القصص في معظم قراءتنا ومنهاجنا التربوية ، مثل رموز عمار بن ياسر وبلال بن رباح في صفحة 33 ورموز اباذر وهند وحمزة والحسين وغيرهم .
في قصيدته ( المسافة ) يقيس الشاعر الإنجاز الإنساني في المنطقة العربية ، وحجم التحولات الاجتماعية في العصر الحديث بمقياس تاريخي مستمد منه الذاكرة التاريخية الإسلامية :
وبين أنين ابن ياسر عمار والصبح
صوت بلال بن رباح يوقظ في لحم مكة
أوردة لم تزرها الدماء
وبين الصراخ وبين الهتاف اخضرار وماء
وقافلة وحداء
وغني عن الذكر أن الرمز الذي ينطوي عليه اسم ( عمار بن ياسر ) يمثل بداية الدعوة ، التي ارتبطت بالألم والصبر علي العذاب ..... بينما ينطوي رمز بلال بن رباح علي النصر ، وقد تحتمل الإشارات الدينية رموزا أخرى يمكن إسقاطها علي الواقع أيضا ن فعمار بن ياسر قد عذب لاسلامه وأبوه ياسر وأمه سمية أول شهدين في الإسلام ماتا من التعذيب .... وكان عمار من أوائل المهاجرين إلى الحبشة ثم إلى المدينة ، وهو من اخلص أنصار علي ، شهد معه الجمل وصفين وقتل فيها وهو ابن أربع وتسعين سنه ..... كل هذه رموز ودلالات يمكن إيجاد مواقع في السياق الدرامي لقصيدة المسافة ، بخاصة وان القصيدة تنتهي بذكر لأبى ذر ( الذي استفاد من موت أم النضال سميه ) وهي أم عمار بن ياسر .... والدلالالة التي يحملها الاسم لاتخفي علي أتحد ، وتمثل في جانب من جوانبها الرفض والثورة بخاصة وان اباذر الصحابي الفقيه كان ملتقى للفقراء والصعاليك في عهد معاوية وعدوا لدودا للأغنياء ، حتى اضطر عثمان بن عفان إلى نفيه .
قد يكون ارتباط اسم عمار بن ياسر بعلي بن آبى طالب ومشاركة في صفين والجمل مدخلا لفهم ورود هذا الرمز في قصائد حبيب الصايغ ، بخاصة وأننا نري تكرارا لرموز اسلامية ارتبطت بالفتنة الكبرى ... فالصحابي اباذر الغفاري كان من اشد منقدي معاوية .... ونجد في الديوان الأول لحبيب الصايغ ذكرا صريحا لمعاوية ( انظر صفحة 15 ) وها هو في ديوانه الثاني يشير إلى ( الحسين ) وهي في مجملها إشارات لا يمكن أن ترد عفو الخاطر وانما هي جزء من التكوين الثقافي والوجداني للشاعر ، ومن الواضح أن الشاعر قد هضم هذا الجانب من التاريخ الإسلامي ووعية جيدا بدليل انه ينجح في توظيفه شعريا وفي إسقاطه علي واقعتا المعاصر ...... ففي قصيدته ( نصيحة إلى المتهم محمود درويش ) يربط الشاعر ما بين ( وجع النيل ) و ( أمنية العمر تقبيل ثغر الحسين ) ، والدلالة هنا واضحة استوحاها الشاعر من الواقعة التاريخية المأسوية التي انتهت في كر بلاء بمقتل الحسين الابن الثاني لعلي وفاطمة .
ما قلناه عن حبيب الصايغ يمكن أن نقوله عن عارف الخاجة مع بعض الاختلافات في المحاور والهموم ، فالخاجة ، يسيطر مثل الصايغ علي مقتضيات الوزن والقافية وهو مغرم حتى النخاع باستدعاء الموروث التاريخي الإسلامي وتحميله الكثير من الرموز المعاصرة ، مع فارق أساسي وهو انه لا يستوحي من الأسطورة كما فعل حبيب ولا يلجأ للرموز التوراتية بل يستمد عناصره من القران ، حتى في معرض تضمينه لقصة نوح والطوفان ، التي وردت في سفر التكوين مزورة ومحورة كما ذكرنا .
دواوين عارف الخاجة
لكن إشارات عارف الخاجة الإسلامية تزيد في ديوانه الوحيد ( بيروت ) عن ضعف ما ورد في دواوين حبيب الصايغ الثلاثة وهذا يعكس تأثرا عميقا بالتاريخ الإسلامي ورموزه وتمثلا لحالات تاريخية متشابهة يراها الشاعر علي ارض الواقع وبعملية إحصائية بسيطة سنجد أن الديوان يتضمن اذكرا لرمي الجمار صفحة 59 وغزوة أحد صفحة 61 والوصايا العشر صفحة 73 والأوس والخزرج وصفحة 8 وعبد الرحمن الداخل صفحة 9 وصلاح الدين الأيوبي صفحة 35 وهاروت وماروت صفحة 39 والحيرة صفحة 41 وخيل طارق صفحة 10 والفتنة الكبرى والردة صفحة 29 وال اشعري وواصل بن عطاء صفحة 53 والجزية ونوح والطوفان صفحة 37 وابرهة الأشرم صفحة 53 والجزية والأصنام صحة 42 والكعبة صفحة 43 ورمضان صفحة 44 وقتيبة صفحة 52 ومسيلمة الكذاب صفحة 52 وسوف عكاظ صفحة 52 وذات النطاقين صفحة 53 فضلا عن الإهداء للكنعانية السمراء ( فلسطين ) .
ثم هناك تمايز أخر بين الشاعرين يتخلص في أن رموز حبيب الصايغ ـ الإسلامية ـ كلها ترتبط بالفتنة الكبرى وحرب صفين والجمل وخروج الحسين والتشيع لعلي مما يحمل في طياته انعكاسا لرؤى دينيه وفكرية يحملها الشاعر بينما نري دائرة أوسع من الرموز الإسلامية في ديوان الخاجة ، تشمل الفتنة الكبرى ولكن لا تقتصر عليها .
ثم أن هناك ميزة ثالثة تحسب لصالح عارف الخاجة وهي انه حرص علي تشكيل قاموسه الشعري ومفرداته من تزاوج أحدثه بين التاريخ وعناصر البيئة . التي يعيش فيها ، مما أعطى للإسقاط التاريخي دلالاته الرمزية الحاضرة وواقعيته فمفردات مثل البحر ، المجداف ، الشط ، الصيد بالصقور ، الحباري ، الحنظل ، القهوة ، الطابوق ، ارض عنود تتكرر في معظم القصائد ، وهي كما نري مستوحاة من البيئة ، بحيث نستطيع القول أن الشاعر قد أنجز معادلتها لشعرية باستدعاء الموروث الشعبي والموروث الديني الإسلامي ليصنع منها القصيدة شكلا ومضمونا .
لكن المشكلة الحقيقية التي تواجه قارئ أشعار الخاجة تتمثل في احتشاد الرموز التاريخية في القصيدة الواحدة حتى تغيب معها القدرة علي الربط بينهما لفهم المغزى العام الذي ترمي اليه ، وبمعني أخر ، كان التضمين التاريخي واستدعاء الموروث في معظم قصائده يطغي علي التجربة الشعرية الحاضرة لعدم تمكن الشاعر من إقامة التوازن بين السياق دون أن تتمكن من لعب دور الرمز أو الارتقاء فنيا في التعبير لانقطاع الوشائج بينها وبين السياق كما نجد في قصيدته ( بيروت 6 اعتزلنا واصل ) ، حيث تضمنت القصيدة الإشارات التاريخية التالية : واصل بن عطاء ، التتار ، المغول ، قتيبة ، مسيلمة عكاظ ، ذات النطاقين ، الاشعري ، إبرهه الأشرم .
كيف نستطيع مثلا أن نوجد المعادلة الرمزية التي تربط بين الرموز المذكورة في المقطع التالي من قصيدته والذي يقول منه :-
إلى الاشعري شددت الرحال
لاسأله أن رأي واصلا
يستقيم علي مهجتي في الطواف
أشاح وعربد ثم أتاني وقال :
لقد كان صبحا مع الأولياء
وراح مساءا مع ابرهه .
لعل الشاعر هنا يربط ما بين رده واصل بن عطاء ورده الاشعري فكلاهما غير في مواقعه وترك بصماته قوية علي صفحة التاريخ .... واصل بن عطاء راس متكلمي المعتزلة ، اصبح واحدا من قادتها حتى أن تيارا فيها نسب إليه وهو ( الواصلية ) وفي ذلك التاريخ اعتبرت المعتزلة رده علي السنة ، بعد أن غالت في الاعتماد علي المنطق والقياس في مناقشة القضايا الكلامية وبعد أن أعلنت أن مفترق الكبيرة ليس بالكافر ولا بالمؤمن بل في منزلة بين المنزلين ..... فضلا عن نظريتهم المشهورة في خلق القران والجرأة المتناهية في مناقشة قضايا التوحيد والعدل والصفات الإلهية ..... أما الاشعري ، فقد حمل تبعة التحكيم بين علي ومعاوية في ( اذرح ) بعد معركة ( صفين ) واعتبر مع عمرو بن العاصي مسئولا عنها ..
لقد حاول ابرهة تدمير الكعبة .... واتهم واصل بن عطاء والمعتزلة بمحاولة تدمير العقيدة الإسلامية ، ولعلنا من هذه المشابهة نخرج بفهم لهذا الربط بينهما في المقطع المشار إليه ، ولكن أين الدلالات الحاضرة لهذه الرموز ..
ما افتقدناه في المقطع السابق نجده في قصيدة ( برقية إلى عبد الرحمن الداخل في عيد الأضحى) فالرمز هنا واضح واستدعاء قصة عبد الرحمن الداخل ابن معاوية بن هشام مؤسس الدولة الأموية في الأندلس يتطابق مع الجد العام للقصيدة ورموزها الحاضرة فلسطين ولبنان ، إذ أن الحكاية التاريخية تنطوي علي الشجاعة والانتصار رغم كل ظروف القهر ، حيث استطاع صقر قريش أن يهرب من بطش العباسين وان يعبر البحر إلى الأندلس وان يدخل اشبيلية وان يقهر يوسف الفهري وان يحارب شارلمان وان يشيد واحدة من اعظم الممالك آنذاك ، فمن أين لفلسطين ولبنان واحدا مثل صقر قريش نكاتبه ونستنجده ؟
يا سيد الحلم أن المحيطات قامت
ترش المياه علي رأسها
من فيوض التأسي بنار الشعوب
وهذي الجموع
أتـتّني لتسأل عن خيل طارق
خلت العبور سيغدو إليك
وهل أنت ترمقناه من بعيد
فلا ابن زياد ولا الأمنيات
في قصيدة ( النهر المتجمد إدانة للزمن الغريب ، والنهر المتجمد يرمز إلى ذلك الخلل التاريخي في المسيرة العربية ، ممثلا بزعمات وقيادات وأحزاب وأحداث تركت بصماتها علي الحاضر ، وحتى يعطي الشاعر لقصيدته ذلك العمق التاريخي أو ـ علي أدق وصف ـ ذلك الامتداد ، لجأ إلى الرمز المستوحي من الصفحات السوداء في تاريخنا الطويل :-
بل كيف تشير لمحكمة التاريخ
وأنت القاضي والمذنب والسجان
وأنت الفتنة والردة والامية والأغلال
وفي موقع أخر :-
لن تلقانا غير عجول
تحلبها المحنة والليل
وصوت الحزن وسجن البحر
وبعض زبانية الدجال .
وفي موقع أخر :-
والفتح إليك أيا بيروت علي مزمار الكأس
يهز البطن بكل عواصم هذا الوطن المخصي
وليس ربوات العنت المفروسة
في ثوب المطر الفصلي
سوي دعوة أم في خيمة برق قد نصبت
قبل ولادة نوح والطوفان
لكن يؤخذ علي عارف الخاجة انه يلمس الرمز التاريخي لمسا سريعا ولا يستثمره كحدث تسكن في ثناياه مأساتنا الحاضرة ، ومن ثم لا يستولد منه عناصر جديدة ورموزا جديدة إسقاطها علي الواقع بل يفضل الانتقال إلى حدث أخر ليلمسه عن بعد وهكذا ، بحيث يبدو الإسقاط التاريخي أحيانا في صورة دخليه علي التجربة الشعرية بدليل انك تستطيع أن تسقطه من السياق دون أن تتأثر القصيدة .
لقد اكثر بدر شاكر السياب من ارتياد الأساطير والموروثات العربية التاريخية والدينية ، مع انه كان أستاذا في توظيفها إلا انه اتهم من قبل بعض النقاد باستعراض عضلاته الثقافية دون مبرر واكثر ما نخشاه أن يطال شاعرنا عارف الخاجة مثل هذا الاتهام إذا لم يتجاوز ما أشرنا إليه من مزالق في ديوانه الجديد وهو قادر علي ذلك يمثل الشاعران عارف الشيخ والدكتور احمد أمين المدني الاتجاه المحافظ في الشعر الاماري ، واعني به ذلك الاتجاه الذي لا يخرج عن حدود القصيدة العربية البيتية التي رسم لها أطرها القانونية الخليل بن احمد الفراهيدي ـ من حيث الوزن ـ بينما حصرها العرف الشعري ـ أن جاز التعبير ـ في مضامين محددة وأغراض شعرية متوارثة إلى يومنا هذا .
عند الدكتور أحمد أمين المدني وعارف الشيخ
ويمكن القول أن الدكتور المدني قد تمثل هذا الاتجاه بحرفيته وأغراضه وحتى بقاموسه اللغوي في ديوانه الأول المطبوع في دبي عام 1968 بعنوان ( حصاد السنين ) ، فأنت تقرأ هذا الديوان لمن الغلاف فلا تجد ما يشير إلى موطن صاحبه ، لان الصور والألفاظ والتعبيرات مستوحاة من التاريخ الأدبي وليس من البيئة ، أو من خصوصية اللغة ، أو من تجربة خاصة ذات نكهة محلية وجذور عربية مثل قوله :-
ربوع البطولات مسرى النجوم ومغني الفراشات والزنبق
ونبع الأماني مطل الرؤى ومنطلق الحلم الشيق
تباركت أرضا يمر الربيع عليها ببرقه الأزرق
فمثل هذا الشعر لا يحمل خصوصية محلية ، ويمكن أن يكون قائلة من مصر أو اليمن أو فلسطين .
من هنا لم اعثر في ديوان الشاعر علي أية إشارات أسطورية أو دينية كما لم يكن هناك توظيفا بيئيا علي صعيدي اللغة والمضمون ، بينما كثرت الإشارات ولدلالات الأدبية المحافظة ، والمرتبطة تاريخيا بحياة الشعر العربي ومسيرته فضلا عن بعض الأغراض الشعرية الفضفاضة ، التي تنادي بالمثل الرومانسية التي عرفها الشعر المهجري ، وقد اعترف الشاعر بذلك في مقدمه طويلة كتبها للديوان اذ يقول : "قصائد هذه المجموعة في كليتها مهما اختلفت مضامينها وتنوعت أشكالها فان شعورا واحدا من الحب والألم والحنين يجمع بينها ، شعور الشباب والقلق علي مشارف عصر جديد ، مصطحب في الآراء متنازع في الأهواء
ومع أن الشاعر تحرر من قيود القافية في بعض قصائده ألا أن إيقاع الحداثة ظل بعيدا ، وظلت بصمات الخليل هي المسيطرة ، بينما وقع الشاعر ـ علي صعيد المضمون ـ في اسر الأغراض الشعرية التقليدية المتوارثة ، وهي سمة تظهر أيوضح ما يكون في قصائد زميله الشاعر عارف الشيخ ، فقصائد ديوانيه ( ذكريات ) و ( نفحات من الخليج ) ترتبط كلها بمناسبات ذكرها الشاعر مفصلة في كل قصيدة ، بخاصة ديوانه الثاني إلى صور في دبي عام 1981 م .
ومع أن معظم قصائد الديوانين ترتبط بمناسبات قد تجدها في أي قطر عربي أخر غير الإمارات مثل قصائده ألام ، المعلم ، الزواج بالتسعيرة ، ميلاد الرسول ، العام الهجري الجديد .... الخ ، ألا أننا لا نعدم إشارات محلية في الكثير منها ، تحمل في طياتها جزءا من المأثور الشعبي ، المتمثل في بعض العادات والتقاليد أو ذكرا لاسماء بعض الأماكن أو ترديدا لبعض الكلمات الفولكلورية ونحن نجد مثل هذا في قصائده هائم في العوير ، سباق الهجن ، دشداشتي وغيرها وكلها من ديوانه ( نفحات من الخليج ) ، وقد تضمنت بعض القصائد إشارات دينية تتعلق بالعرف أو العادة مثل ذكر الخمار في صفحة 11 وارتفاع المهور في صفحة 27
أما في ديوانه ( ذكريات ) فترد التضمينات الدينية والأسطورية علي سبيل التشبيه أو الاستعارة دون أن تستخدم فنيا لاثراء القصيدة بمدلولها وهو الاتجاه الذي تنبه مدرسة ابولو بقصد بعث الأساطير من مكمنها بصفتها من إنتاج الفكر الإنساني ، في قصيدته ( الغناء يغزو قلوب المشايخ ) يرد ذكر ( الاقيال ) ... وهي جمع قيل وهو من ملوك الجاهلية دون الملك الأعظم وفي قصيدته ( ليس للإنسان ألا ما سعي ) .. انظر صفحة 55 ـ يرد ذكر قارون وهامان وساسان وكسري وملك الرومان ... الخ ، وهي إشارات ترد في معرض الاستعارة أو التشبيه ولا توظف لغايات فنية كما انه لا يتم أي إسقاط معاصر عليها :-
راع حق الناس بعد الله ان شئت عيشا بينهم يا من عقل
كل من في الكون يفتي غير من خلق الكونيين باق لم يزل
أين قارون وهامان ومن حكم الأقباط والقوم الأول ؟
أين ساسان وكسري والذي ملك الرومان يوما فانعزل
تلك آثار فدلت بعدهم انهم سادوا زمانا في الملل
يتكرر الموروث التاريخي والديني في معظم قصائد ديوانه ( ذكريات ) . ، بينما تظل عناصر هذا الموروث خارج إطار التجربة الذاتية ؛ بمعني أن ( الرموز ) تستدعي من التاريخ لا يهدف الشاعر منها إلى إعادة صياغة الحاضر بعد استلهام كينونة الموروث وزخمة ومدلولاته وانما تستدعي لاستكمال معادلة المشابهة بين صورتين ، لذا يمكن إسقاط هذه الرموز أو استبدالها دون أن تتغير القصيدة كما نري في قصيدته ( القدس الحزين ) ـ صفحة 67 ـ ففي سياق تذكر الشاعر لامجاد العرب والمسلمين في القدس ، علي ضوء ما وصلت إليه المدينة ألان ، يرد ذكر عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد كرمزين للقوة والمجد العربي والإسلامي ، ولو جري تغيير استبدال اسم خالد بصلاح الدين فان شيئا علي صعيد السياق لن يتغير :-
يا ويح قلبي هل للسيف من عمر وأين خالد للباغي وذي الدخن
مالي أرى الناس أشباحا مصورة والأرض ملآي من الشحناء والضغن
لقد تعامل الشاعر عارف الشيخ مع الرموز الأسطورية والتوراتية كمفردات وليس كعناصر يمكن اعتبرها من مكونات القصيدة شكلا ومضمونا ، لذا اكثر من ايرادها لتلعب دور المفردة القاموسية دون أن يسعي لتحريك الرمز واثراء التجربة الفنية بدلالته ... ففي قصيدته ( ما بال فلسطين ضاعت ) اشاره للمخاطر التي تحيط بالقدس ، وقد تضمنت هذه الاشاره حديثا عن هيكل سليمان وحوارا مع موسي ونفيا لادعاءات اليهود في أن العهد القديم يجوز لهم السرقة وتعذيب الآخرين :-
مـــــــا بـــــــال فلسطين ضاعت وبنوده يذاقون المحنــــــــا
مســـــــــــــــري الاسلام مكبلة قد عطل فيه شعائرنــــــــــا
حاطت بالهيــــــــكل شرذمة والهيــكل حقا هيكــــلنــــا
صهيـــــــــون يهود مربـعنا قم يا موسي لتحدثنــــــــــا
قل : هل في شرعك تعذيب او تشريد من موطننــــــــــا ؟
ما قلناه عن الرموز الدينية المشار إليها فقوله أيضا عن أسطورة ( إيزيس ) التي يرد ذكرها في قصيدته ( إلى حبيبتي ) علي سبيل التشبيه ، وليس علي سبيل الثورة كما وردت في قصائد السياب ... وإذا افترضنا أن الشاعر هو ( أوزوريس ) حبيب ( إيزيس )، بدليل انه يخاطبها علي النحو التالي :-
يا ظبية البحرين يـــا إيزيس في دنيا الحســــــــان
يا من سكنت جوانحي روحي فداؤك والجنـــــــــــــان
ما أنت أول فاجع فــــي الحب من بعد التـــــــــــــــدان
فالوصل يعقبه النوي ولكل فاجعة زمـــــــــــــــــــان
وعسي الذي خــــــــــــلق النوي يقضي بوصل في ثوان
أقول : إذا كان الشاعر هو ( أوزوريس ) الجديد وحبيبته هي ( إيزيس ) فان خللا ما في الفهم للأسطورة يمكن استنتاجه من السياق لان الأسطورة لا تحدثنا عن ( جمال ) إيزيس بقدر ما تحدثنا عن ( جمال ) إيزيس بقدر ما تحدثنا عن ( بعث ) أوزوريس من جديد ووفق هذه الأسطورة ـ كما يقول فراس سواح ـ نجد الإله أوزوريس بطلا حضاريا يعلم المصريين الزراعة تساعده في ذلك أخته وزوجته إيزيس ( وفي إحدى المرات قام أخوه الإله سيث أو طيفون بحيلة خبيثة جعلته سجين صندوق خشبي فسمر عليه وقذفه في مياه النيل فطاف الصندوق حتى صب مع مياه النهر في البحر المتوسط وهناك تدافعته الأمواج حتى وصل إلى مدينة بيبلوس الكنعانية حيث علق بإحدى أشجار الشاطئ الوارفة وقد راحت إيزيس تبحث في جميع الأنحاء عن حبيبها الضائع إلى أن وجدته فعادت بالصندوق والجثة إلى بلدها لتعيد له الحياة ولكن سيث عثر علي الصندوق فقام بتقطيع جسد أوزوريس ووزع القطع في جميع أنحاء البلاد حتى يصبح من المستحيل إعادة الحياة إليها مرة ثانية ولكن إيزيس بدون يأس تابعت البحث مرة أخرى إلى أن وجدت الأجزاء جميعا عدا عضوا الذكورة الذي بقي مفقودا ثم أعادت له الحياة بمعونة أختها الإلهة نفتيس ) .
هذه هي ( إيزيس ) القديمة ، وهي تختلف جذريا عن ( ظبية البحرين ) التي جعلها الشاعر شبيهة إيزيس ، ولا أظن أن الحبيب قد تمثل دور أوزوريس ، الذي يعني الثورة علي المجتمع ، لان الدلالة هنا معكوسة ولا تنسجم مع السياق ولا أظن أن الشاعر أرادها علي هذا النحو!! من المؤكد أن إدراج ديوان ( سبع قصائد ) للشاعر احمد راشد ثاني تحت العنوان الكبير الذي وضعناه لهذه الدراسة وهو ( استدعاء الموروث في الشعر المحلي ) يحمل في طياته اعترافا بان قصائد الديوان تتسم بالحداثة في الشكل والمضمون ، رغم أنها مكتوبة باللهجة العامية ، وهذه الحداثة هي التي سوغت ( إقحام ) هذا الديوان في الدراسة رغم أننا أسقطنا كل الدواوين النبطية الأخرى في الإمارات .
ونعني بالحداثة هنا الروح التي تسود القصائد والهموم التي تصدر عنها والإيقاع الذي يعزف عليه الشاعر ، وهي اقانيم ثلاثة تخرج بهذا الديوان من دائرة الموروث النبطي لتدخله رغم معادلة اللغة الفصحى إلى قلب التجربة الشعرية الحديثة في الإمارات .
عند أحمد راشد الثاني
وإذا كانت طبيعة التجارب الشعرية السابقة التي تطرفنا إليها في هذه الدراسة قد تباينت في توظيفها للموروث الشعبي كما وكيفا وإذا كنا قد تمكنا من رصد هذا التباين وتحديد ملامح هذا الموروث ، فأننا نعجز بالتأكيد عن رصد ذاته لديوان احمد راشد ثاني لان الموروث لغة ومضمونا هو لحمة وسداه التجربة الشعرية في هذه القصائد ، فهي مجبولة به ، ومستقاة منه ومعبره عنه وناطقة بلسانه .
ومن المسلم به أن هذه الميزة تحسب لكل القصائد البنطية أو المكتوبة باللهجة العامية الشعبية وليس لقصائد احمد راشد ثاني وحدة ، لكن المؤشر الذي جعلنا نلتفت إليه في هذه القصائد ومن ثم سوغ لنا النظر إليها من رؤية الحداثة هو تعامل الشاعر مع التراث الشعبي وتوظيفه لعناصره في سبيل النطق بمعادلة حياتية جديدة غالبا ما يسعي إلى النطق بها الشعر الحديث ، بينما نجد أن معظم الأعمال الشعرية البنطية المطبوعة تنطق بما هو واقع في إطار الرغبة بتكريسه وليس في إطار المناداة بتغييره .
ونمني عن الذكر أن قراءة هذه القصائد لاحمد راشد ثاني ليست بالعملية السهلة لمن لا يعرف لهجة أهل المنطقة فضلا عن العادات والتقاليد السائدة ، ومع أن الشاعر شرح في هوامش ديوانه الكثير من هذه العادات والتقاليد والألفاظ ألا أن القصائد ستظل مغلقة علي غير العارف بها ، لان نقطه الجذب في الديوان تكمن في الإيقاع الداخلي للألفاظ بما يتضمنه من إيحاءات لا يدركها ألا من عاش وعاني في هذه المنطقة .
قصيدة ( مليت هذا الألم ) ـ وهي القصيدة الأولى الأولى في الديوان ـ تلخص كل ما ذهبنا إليه ونختزل تجربة الشاعر الفنية والمضمونية ، فضلا عن كونها انضج قصيدة في الديوان واقربها إلى روح الحداثة واكثر توظيفا للمأثور الشعبي وتحقيقا لمعادلته الرمزية مع الواقع .
تبدأ القصيدة برسم ثلاث دوائر نفسية متداخلة ، تحمل الأولى المهم الذاتي أو الشخصي بينما تؤطر الثانية للمهم الاجتماعي المستمد من مجموع الهموم الذاتية للآخرين وتمتد الدائرة الثالثة بالتجربة إنسانيا لتعمق الطرح الذاتي ليصبح طرحا إنسانيا .
يكمن المهم الذاتي أو الشخصي في حالة الضياع والشقاء التي يعاني منها الشاعر ويعبر عن ذلك بافتتاحية القصيدة :-
إلى متي يا شقا مزروع في يوفي
إلى متي يا ألم تسقي سدر خوفي
إلى متي إحنا بحري ما اله ساحل
كلن دهن مركبة والكل في قفال
ألا أنا سامرت ويا الهوي راحل
لقد استمد الشاعر ملامح الصورة النفسية له من البيئة السدر ، البحر ، الساحل ، المركب ، قفال ـ نهاية رحلة الغوص ـ سامرن ـ أي سمرت به الرياح والأمواج لعرض البحر ـ فمن خلال عناصر البيئة الشعبية ودراميتها نسج الشاعر معاناته النفسية وإحساسه بالشقاء والضياع معطيا بذلك لصورة عدة أبعاد ... أقربها إلى القارئ العادي البسيط معاناة راكبي البحر ممن يعجزون عن العودة مع الرفاق وابعدها أو أعمقها ذلك التمازج بين البيئة ومعاناة راكبي السفن وبين الحالة النفسية للشاعر ، بمعنمي أن الشاعر قد نجح في استدعاء عناصر البيئة والموروثات .
ليقدمها في بعدين ، الأول توثيقي والثاني وظيفي فني .
الدائرة الثانية التي تتسع لتشمل المجتمع المحيط بالشاعر تبدأ بقوله :-
إلى متي يا بحـــر
تحدي شادرنا
إلى متي بالحلم
نحمي مواقعنا
الي متي نبغي نسمع صوت حربية
أيدق يجمع مياديفك بكوسية
إلى أن يقول :-
والطبل لو دقته تطعني علي النهمة
محدترا هالزمن بيخاف من طبله !!
في هذه الصورة يعكس الشاعر حالة تقاعس اجتماعي ، هي امتداد لاحساسة الفردي بالشقاء والضياع ، وقد استدعي الشاعر إحدى الرقصات الشعبية المعروفة ( رقصة الحربية ) ليحملها الرمز الذي يريده ، فقد كانت هذه الرقصة ـ ومثلها العيالة ـ بمثابة النفير العام ، حيث يجتمع القوم علي دقات الطبول بأمر من شيخ القبيلة ، والشاعر يستدعي هذا اللون من المأثور الشعبي ليحقق معادلتين ، الأولى التعريف به ، وهي المعادلة الابسط والأقل إلحاحا عليه والثانية هي توظيف عناصر هذا الموروث لخدمة الفكرة التي يريدها وهي لقناعته بان ( حماية المواقع ) لا تكون بالحلم ولا بطول الحربية ( محددا ترا هالزمن بيخاف من طبله ) .
الامتداد الثالث للمعاناه يرتبط بنسخ إنساني وهو الإحساس المفرط لدي الإنسان المعاصر بخطورة التطور التكنولوجي عليه ، وهو إحساس بدأ يظهر في الأدب العالمي مع قصائد اليوت ( الأرض الخراب ) ... ووجدنا له إشارة صريحة في قصائد شوقي ، وانعكاسا مريرا في قصائد السياب ، الذي تحدث عن الإله والصراع معها كثيرا ، وفي هذه القصيدة نجد إشارة إليه تكمن في المقطع الأخير الذي يقول :-
إلا أنا مجروح
مجروح مثلك ـ يا بحر ـ
مثل كل اللي بيحبك
مجروح ، جرحي خبق
وخبوههم أبار
أنا اداوي الخبق
وابيته ببراز
لكن خبقهم ترا في اليوف يتوسع
لا بالملح ، لا بالرمل ، لا الطين يترقع
إلى متي ما بيتك تحمل علب سردين
بتروش عالسيف كل ليلة قواطي البير
تخبرني كل يوم غرب اللي يرسلوني ....
• فعنترة رمز للفروسية والشجاعة .
• وهو رمز للحب والإخلاص .
• وهو رائد من رواد الحب العذري .
• وهو شاعر
• وهو عفيف النفس رقيق الأحاسيس
• وهو ( أهم فارس احتفظت به ذاكره العرب في أجيالهم التالية إلى يومنا هذا ) ـ كما يقول الدكتور شوقي ضيف
• وهو العبد الذي يسعي إلى الحرية .
• وهو محرر العبيد .
• وبالمقابل فان عبلة رمز للطهارة والجمال .
• وعبسي رمز لنكران الجميل .
• وزبيبة رمز للعطاء والخلق .
• وشداد العبسي رمز لسيطرة عقل القبيلة .
• وشيبوب رمز للوفاء الأخوي
كل هذه الأبعاد تجدها في قصيدة حبيب الصايغ ، وحتى في عنوانها ( هنا بار بني عبس الدعوة عامة ) الذي يستفزك ويسلمك مفاتيح الرمز في القصيدة ..... تاريخ القبيلة اصبح مشربا للعابدين والدعوة عامة بكل مجانيتها ..... الإسقاط التاريخي في القصيدة يمر في دوائر ثلاث بينها تماس مباشر :
• دائرة ذاتية هي انعكاس لتجربة شخصية جدا .
• دائرة اجتماعية هي الوليد الشرعي للمعايشة الحقيقية للظروف الموضوعية المحيطة .
• دائرة إنسانية يكتمل بها الإطار .
تبدأ القصيدة بافتتاحية الوحدة والضياع والقلق التي يعيشها عنترة العربي في حاضرة :-
تشاغبني البيد في ذروة الوحدة العاقلة
وزوادتي فوق ظهري
وعمري نفق
ظلام تمدد في الوقت ثم احترق
ولا شيء حولي سواي
وظلي ..... يراودني عن نقائي الجريح
ويلفظ باقي الرمق
هذه الافتتاحية لا تطول ، حيث يبدأ التاريخ يتسرب إلها من خلال شخصياته الشهيرة ( ابن ماجد) ، ( القراصنة ) ، ( زبيبة ) ، عبسي ( خراسان ) ، ( مكة ) ...... الخ .
بين الدائرتين الأولى ، حيث الذات والوحدة والضياع ، والثانية ، حيث التاريخ يشارك الشاعر همومه ، تظل معزوفة الوحدة تتردد :-
وحيد أنا
ضائع كالفصول الشريدة
ان الرثاء انتهاء الحضارات
فلتربطوني الي شاهد القبر
كيما اغني
في وعي عنترة العربي كانت عبلة ـ ومعادلها الوطن ، الحرية ـ بمثابة الحلم ، الذي يمكن الوصول إليه وتحقيقه ، بتجاوز الواقع ، فهل استطاع عنترة العبسي ، العبد الأسود ،الحبشي ، أن يتجاوز واقعه الاجتماعي وقانونه الصارم :-
تطلين يا عبل
يحتضر النبض
بين شفاه القبيلة
يخلع وجهك جلد الحريم
ويستيقظ الشبق المدلهم
وينبت في الطين حلم
ويذبل في الجو غيم
وتمتد بين السرات وبين الدخان
جسور من الوهم
هل أنت يا عبل وهم ؟
في قصيدة فدوي طوقان كان الرمز تعادليا كما رأينا ، فعنترة هو الفدائي وعبلة هي فلسطين ... أما هنا فالأبعاد والرموز تتداخل وتعطي اكثر من احتمال ، قد تكون عبلة هي الرمز المقابل للثورة أو الخلاص أو الحرية أو الوطن ، لا ندري ، فالمعادلة عند الصايغ ليست هندسية تطابقية وأنا هي ـ كما قلنا ـ إيحاء بحالة وإرهاص بوجدان ..... عبلة في النهاية هي الحلم ، وإذا كان عنترة قد استطاع أن يختزل المسافة ما بين الحلم والواقع رغم قوانين القبيلة فما يمنع ألان تكرار المحاولة !!
أن ميزة الشاعر حبيب الصايغ في تعاملة مع حكاية ( عنترة وعبلة ) تكمن في قدرته علي بعث دلالات كثيرة تنجم في سياقها العام مع الواقع ، ـ حيث تحقق الحوار بين الماضي والحاضر فتوفرت بذلك خاصية درامية لعمله الشعري ساعدته علي التطويل المشار اليه والذي غطي مختلف الأبعاد الإنسانية فمر الحكاية ....... كل ذلك ضمن توازن في إقامة هذا الحوار بحيث لا يطغي السياق علي الرمز ولا يطعني الرمز علي الواقع .
أن نجاح الشاعر حبيب الصايغ في استدعاء شخصيات عنترة العبسي ومن معه هو الذي يدفعنا إلى الدهشة من فشل الشاعر نفسه في استدعاء الأسطورة والشخصيات التوراتية والإسلامية في ديوانه الثاني ، فأين الحلقة المفقودة وكيف تسني للشاعر أن ينجح في عمله الشعري الأول ويفشل في الثاني ؟! في قصيدته الأولى ( قراءة جديدة في سفر التكوين ) من ديوانه الثاني ( التصريح الأخير للناطق الرسمي باسم نفسه ) يستدعي الشاعر حبيب الصايغ رمزا من رموز التوراة هو ( سفر التكوين ) ويجعله عنوانا لقصيدته ، فضلا عن نثر بعض عناصره داخل رحم القصيدة ..... مثل ( جنات عدن ) و ( الطوفان ) .
وغني عن الذكر أن للرمز الأسطوري أو الديني ـ كما يقول الدكتور علي البطل ـ دلالته الخاصة السابقة علي العمل الفني الجديد ولن يتاح للشاعر تفجير الدلالة المطلوبة في عمله الفني ألا عندما يوائم بين الرمز والسياق الذي يضمنه له ، يكون الرمز أداة تؤكد المشاعر التي يريد الشاعر أثارتها في القصيدة وهي معادلة تمكن حبيب الصايغ من تحقيقها في استحضاره لشخصية عنترة بن شداد كما بينا في السابق لكنه هنا في ديوانه الثاني يخفق الشاعر في إيجاد هذه المعادلة ، حيث لا يستطيع القاري أن يكتشف الوشائج التي تربط بين الحالة الشعرية الحارة والرمز التوراتي في ( سفر التكوين ) .
وسفر التكوين كما نعلم هو واحد من الأسفار الخمسة الأولى والقديمة في العهد القديم ويضم قصة الخلق والطوفان وبناء برج بابل ، ومع أننا نؤمن بان التوراة نزلت علي موسي بوحي سماوي ألا أن جميع المؤرخين ـ ومنهم بعض اليهود ـ اتفقوا علي ان تحريفا كبيرا دخل عليها ومنهم من يشكك بالأسفار نفسها ، وقد وردت إشارة إلى هذا التحريف في القران الكريم ( يكتبون الكتاب بأيديهم ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ) وقد أصاب التحريف كل أسفار العهد القديم ، والعهد القديم ـ كما هو معروف ـ ينتهي في التسلسل التاريخي عند ظهور المسيح ، وقد اتفق العلماء علي ان معظم روايات سفر التكوين وبقية الأسفار منقولة عن قصص وأساطير بابلية قديمة جري تحويرها بحيث تتماشي مع مزاعمهم مثل سفر الخروج.
سفر استير ، سفر الأمثال ، سفر أيوب ، سفر راعوث ..... الخ .
هذا يعني أن أي استدعاء للرموز التوراتية يجب أن يأخذ بعين الاعتبار هذه الحقيقة ، حتى لا يقع الشاعر بدون قصد في خطأ تكريسي هذه الرموز المحرفة ، كما أن استدعاء هذه الرموز يجب آن يتم وفق اختيار دقيق لعناصرها لا أن يتم الاستدعاء بشكل مطلق علي النحو الذي نراه في قصيدة حبيب الصايغ ، فهو هنا يجعل ( سفر التكوين ) افتتاحية وعنوانا للقصيدة ، وقارئ القصيدة يفترض أن يجد بعض الوشائج بين عناصر سفر التكوين وبين الحاضر الذي يريده الشاعر ، ولكنه يعجز عن إيجاد معادلة واحدة بين القطبين ، فسفر التكوين يحاول ان يرسم بداية للخلق من خلال مزاعم كثيرة محرفة ، بينما تتحدث قصيدة الصايغ عن العاصمة ( التي تتشكل عاصمة بلهاء وسكانا منفيين وأطيارا نسيت شكل البحر ) ... فما الذي يريده الشاعر أذن من ( سفر التكوين ) وما الرمز الذي أراده ؟!
لقد لاحظت أن معظم الإشارات الأسطورية أو التوراتية التي ترد في قصائد حبيب الصايغ لا توظف في السياق كما يجب ، لذا تبدو طارئة وداخلة عليه ، بهدف الزخرفة والتزيين ليس ألا ، ففي ديوانه الأول ( هنا بار بني عبس ) يرد ذكر ( بابل ) في قوله :-
هربني من خراسان شيخ خرير
وابنائي في الطريق بأسرار بابل
والأولين
وبسمل
ثم توضأ بالموج في لحظة المد
ساءلين :
أين مكة في العالمين ؟
أن فهم الأسطورة شرط أساسي يسبق استدعاء عناصرها في القصيدة ، وأسطورة ( بابل ) ذات أبعاد رمزية متعددة ، فهي عاصمة حمورابي المشهور بفتوحاته وقوانينه وفيها ( البرج) الذي ورد ذكره في التوراة ... وهي المدينة التي كانت منفي لليهود عندما سباهم إليها بنوخذ نصر ودمر هيكلهم في القدس ، فأين الرموز التي أرادها حبيب الصايغ في قصيدته وما العلاقة التي تربط بين ( بابل ) و ( خراسان ) ؟!
لقد أصبحت ( بابل ) رمزا للخطيئة بفعل الحقد اليهودي المتأصل لها ، لأنها شهدت سبيهم وذلهم ، وقد انعكس هذا الحقد في ( سفر التكوين ) حيث يدعي اليهود أن الرب دمر برجها وشرد شعبها وبلبل لفتها فسميت ببابل ، ثم هي رمز للعدالة المتمثلة بقوانين حمورابي وشريعته فأي الرمزين أراد الشاعر في قصيدته ، وما اوجه الشبه بين بابل ومكة وخراسان ؟!
في قصيدته ( عزف منفرد علي البرج ) من ديوانه الثاني ( التصريح الأخير ) أدانه لهذا ( الزمن المذعور ) و ( المسكون بإلهة الحرب ) وهي أدانه يوردها الشاعر في اطار إحساسه . المفرط بالغربة في هذه ( المدنية ) التي ( بلغت قيمتها المثلي ) ثم يعرج الشاعر علي ذكر علاقة فرعون بموسى :
ارسم خاصرتي
نقشا فرعونيا فوق السكين
فينزف موسي دمعا ......... الخ
في هذه القصيدة إشارة لقصة قابيل وهابيل ...... والسؤال الذي يلح علي القارئ هو : ما العلاقة بين حالة الاغتراب التي يعتبر عنها الشاعر في قصيدته وبين الرموز والدلالات التي يمكن أن نفهمها من قصة موسي والفرعون رمسيس أو قصة قابيل وهابيل ؟!
لعل الشاعر أراد من تضمينه لها تين القصتين الإشارة إلى الدلالة الرمزية التي ارتبطت بهما وهي ( الشر ) .... فرمسيس كاد لموسى ... وقابيل قتل هابيل لما رأي انه قد تقبل قربان أخيه دون قربانه .... ولعل الشاعر أراد دلالة أخرى غير تلك ، غالبا ما ترتبط بهاتين القصتين وهي الرموز التي ترتبط بالثعبان في قصة موسي والغراب في قصته قابيل وهابيل !! الاحتمالات كثيرة .... ومتعددة بتعدد التفسيرات والتأويلات والشروحات التي ترتبط بكل قصة علي حدة ، والتي لم نتمكن من استشفاف عناصرها في القصيدة ، فنحن لا ندري هل أشار الشاعر الي قصه قابيل وهابيل كما وردت في سورة المائدة ام انه أشار إليها كما وردت في الإصحاح الرابع من سفر التكوين وبين القصتين خلاف كبير .
في هذه القصيدة يرد ذكر الأسطورة الدينية دون تحريك الرمز أو توظيفه لاثراء الحالة الشعرية بدلالاته والسب عدم تمثل الشاعر لها .في الديوان الثاني للشاعر ( التصريح الأخير ) توظيف غير ناجح للرموز الأسطورية والتوراتية ، حيث يظل ذكر اسم ( يهوذا ) في صفحة 28 خارج نطاق التجربة الشعرية المعاصرة فضلا عن الإشارات التي عرجنا عليها وهي سفر التكوين في صفحة 8 وفرعون في صفحة 59 وحواء وادم في صفحة 73 وجنات عدن في صفحة 10 والطوفان في صفحة 14 وقابيل في صفحة 114 وموسى في صفحة 118 ، لكن الشاعر ينجح وفي الديوان نفسه تمثل القصص الدينية والتاريخية الإسلامية والتاريخية وتوظيفها بدلالاتها المختلفة في الصفحة في القصيدة ، ولعل هذا يعود لمعرفة الشاعر بعناصر وتفاصيل هذه القصص ، بحكم تخصصه ، ثم بحكم تكوينه الثقافي والديني حيث ترد رموز هذه القصص في معظم قراءتنا ومنهاجنا التربوية ، مثل رموز عمار بن ياسر وبلال بن رباح في صفحة 33 ورموز اباذر وهند وحمزة والحسين وغيرهم .
في قصيدته ( المسافة ) يقيس الشاعر الإنجاز الإنساني في المنطقة العربية ، وحجم التحولات الاجتماعية في العصر الحديث بمقياس تاريخي مستمد منه الذاكرة التاريخية الإسلامية :
وبين أنين ابن ياسر عمار والصبح
صوت بلال بن رباح يوقظ في لحم مكة
أوردة لم تزرها الدماء
وبين الصراخ وبين الهتاف اخضرار وماء
وقافلة وحداء
وغني عن الذكر أن الرمز الذي ينطوي عليه اسم ( عمار بن ياسر ) يمثل بداية الدعوة ، التي ارتبطت بالألم والصبر علي العذاب ..... بينما ينطوي رمز بلال بن رباح علي النصر ، وقد تحتمل الإشارات الدينية رموزا أخرى يمكن إسقاطها علي الواقع أيضا ن فعمار بن ياسر قد عذب لاسلامه وأبوه ياسر وأمه سمية أول شهدين في الإسلام ماتا من التعذيب .... وكان عمار من أوائل المهاجرين إلى الحبشة ثم إلى المدينة ، وهو من اخلص أنصار علي ، شهد معه الجمل وصفين وقتل فيها وهو ابن أربع وتسعين سنه ..... كل هذه رموز ودلالات يمكن إيجاد مواقع في السياق الدرامي لقصيدة المسافة ، بخاصة وان القصيدة تنتهي بذكر لأبى ذر ( الذي استفاد من موت أم النضال سميه ) وهي أم عمار بن ياسر .... والدلالالة التي يحملها الاسم لاتخفي علي أتحد ، وتمثل في جانب من جوانبها الرفض والثورة بخاصة وان اباذر الصحابي الفقيه كان ملتقى للفقراء والصعاليك في عهد معاوية وعدوا لدودا للأغنياء ، حتى اضطر عثمان بن عفان إلى نفيه .
قد يكون ارتباط اسم عمار بن ياسر بعلي بن آبى طالب ومشاركة في صفين والجمل مدخلا لفهم ورود هذا الرمز في قصائد حبيب الصايغ ، بخاصة وأننا نري تكرارا لرموز اسلامية ارتبطت بالفتنة الكبرى ... فالصحابي اباذر الغفاري كان من اشد منقدي معاوية .... ونجد في الديوان الأول لحبيب الصايغ ذكرا صريحا لمعاوية ( انظر صفحة 15 ) وها هو في ديوانه الثاني يشير إلى ( الحسين ) وهي في مجملها إشارات لا يمكن أن ترد عفو الخاطر وانما هي جزء من التكوين الثقافي والوجداني للشاعر ، ومن الواضح أن الشاعر قد هضم هذا الجانب من التاريخ الإسلامي ووعية جيدا بدليل انه ينجح في توظيفه شعريا وفي إسقاطه علي واقعتا المعاصر ...... ففي قصيدته ( نصيحة إلى المتهم محمود درويش ) يربط الشاعر ما بين ( وجع النيل ) و ( أمنية العمر تقبيل ثغر الحسين ) ، والدلالة هنا واضحة استوحاها الشاعر من الواقعة التاريخية المأسوية التي انتهت في كر بلاء بمقتل الحسين الابن الثاني لعلي وفاطمة .
ما قلناه عن حبيب الصايغ يمكن أن نقوله عن عارف الخاجة مع بعض الاختلافات في المحاور والهموم ، فالخاجة ، يسيطر مثل الصايغ علي مقتضيات الوزن والقافية وهو مغرم حتى النخاع باستدعاء الموروث التاريخي الإسلامي وتحميله الكثير من الرموز المعاصرة ، مع فارق أساسي وهو انه لا يستوحي من الأسطورة كما فعل حبيب ولا يلجأ للرموز التوراتية بل يستمد عناصره من القران ، حتى في معرض تضمينه لقصة نوح والطوفان ، التي وردت في سفر التكوين مزورة ومحورة كما ذكرنا .
دواوين عارف الخاجة
لكن إشارات عارف الخاجة الإسلامية تزيد في ديوانه الوحيد ( بيروت ) عن ضعف ما ورد في دواوين حبيب الصايغ الثلاثة وهذا يعكس تأثرا عميقا بالتاريخ الإسلامي ورموزه وتمثلا لحالات تاريخية متشابهة يراها الشاعر علي ارض الواقع وبعملية إحصائية بسيطة سنجد أن الديوان يتضمن اذكرا لرمي الجمار صفحة 59 وغزوة أحد صفحة 61 والوصايا العشر صفحة 73 والأوس والخزرج وصفحة 8 وعبد الرحمن الداخل صفحة 9 وصلاح الدين الأيوبي صفحة 35 وهاروت وماروت صفحة 39 والحيرة صفحة 41 وخيل طارق صفحة 10 والفتنة الكبرى والردة صفحة 29 وال اشعري وواصل بن عطاء صفحة 53 والجزية ونوح والطوفان صفحة 37 وابرهة الأشرم صفحة 53 والجزية والأصنام صحة 42 والكعبة صفحة 43 ورمضان صفحة 44 وقتيبة صفحة 52 ومسيلمة الكذاب صفحة 52 وسوف عكاظ صفحة 52 وذات النطاقين صفحة 53 فضلا عن الإهداء للكنعانية السمراء ( فلسطين ) .
ثم هناك تمايز أخر بين الشاعرين يتخلص في أن رموز حبيب الصايغ ـ الإسلامية ـ كلها ترتبط بالفتنة الكبرى وحرب صفين والجمل وخروج الحسين والتشيع لعلي مما يحمل في طياته انعكاسا لرؤى دينيه وفكرية يحملها الشاعر بينما نري دائرة أوسع من الرموز الإسلامية في ديوان الخاجة ، تشمل الفتنة الكبرى ولكن لا تقتصر عليها .
ثم أن هناك ميزة ثالثة تحسب لصالح عارف الخاجة وهي انه حرص علي تشكيل قاموسه الشعري ومفرداته من تزاوج أحدثه بين التاريخ وعناصر البيئة . التي يعيش فيها ، مما أعطى للإسقاط التاريخي دلالاته الرمزية الحاضرة وواقعيته فمفردات مثل البحر ، المجداف ، الشط ، الصيد بالصقور ، الحباري ، الحنظل ، القهوة ، الطابوق ، ارض عنود تتكرر في معظم القصائد ، وهي كما نري مستوحاة من البيئة ، بحيث نستطيع القول أن الشاعر قد أنجز معادلتها لشعرية باستدعاء الموروث الشعبي والموروث الديني الإسلامي ليصنع منها القصيدة شكلا ومضمونا .
لكن المشكلة الحقيقية التي تواجه قارئ أشعار الخاجة تتمثل في احتشاد الرموز التاريخية في القصيدة الواحدة حتى تغيب معها القدرة علي الربط بينهما لفهم المغزى العام الذي ترمي اليه ، وبمعني أخر ، كان التضمين التاريخي واستدعاء الموروث في معظم قصائده يطغي علي التجربة الشعرية الحاضرة لعدم تمكن الشاعر من إقامة التوازن بين السياق دون أن تتمكن من لعب دور الرمز أو الارتقاء فنيا في التعبير لانقطاع الوشائج بينها وبين السياق كما نجد في قصيدته ( بيروت 6 اعتزلنا واصل ) ، حيث تضمنت القصيدة الإشارات التاريخية التالية : واصل بن عطاء ، التتار ، المغول ، قتيبة ، مسيلمة عكاظ ، ذات النطاقين ، الاشعري ، إبرهه الأشرم .
كيف نستطيع مثلا أن نوجد المعادلة الرمزية التي تربط بين الرموز المذكورة في المقطع التالي من قصيدته والذي يقول منه :-
إلى الاشعري شددت الرحال
لاسأله أن رأي واصلا
يستقيم علي مهجتي في الطواف
أشاح وعربد ثم أتاني وقال :
لقد كان صبحا مع الأولياء
وراح مساءا مع ابرهه .
لعل الشاعر هنا يربط ما بين رده واصل بن عطاء ورده الاشعري فكلاهما غير في مواقعه وترك بصماته قوية علي صفحة التاريخ .... واصل بن عطاء راس متكلمي المعتزلة ، اصبح واحدا من قادتها حتى أن تيارا فيها نسب إليه وهو ( الواصلية ) وفي ذلك التاريخ اعتبرت المعتزلة رده علي السنة ، بعد أن غالت في الاعتماد علي المنطق والقياس في مناقشة القضايا الكلامية وبعد أن أعلنت أن مفترق الكبيرة ليس بالكافر ولا بالمؤمن بل في منزلة بين المنزلين ..... فضلا عن نظريتهم المشهورة في خلق القران والجرأة المتناهية في مناقشة قضايا التوحيد والعدل والصفات الإلهية ..... أما الاشعري ، فقد حمل تبعة التحكيم بين علي ومعاوية في ( اذرح ) بعد معركة ( صفين ) واعتبر مع عمرو بن العاصي مسئولا عنها ..
لقد حاول ابرهة تدمير الكعبة .... واتهم واصل بن عطاء والمعتزلة بمحاولة تدمير العقيدة الإسلامية ، ولعلنا من هذه المشابهة نخرج بفهم لهذا الربط بينهما في المقطع المشار إليه ، ولكن أين الدلالات الحاضرة لهذه الرموز ..
ما افتقدناه في المقطع السابق نجده في قصيدة ( برقية إلى عبد الرحمن الداخل في عيد الأضحى) فالرمز هنا واضح واستدعاء قصة عبد الرحمن الداخل ابن معاوية بن هشام مؤسس الدولة الأموية في الأندلس يتطابق مع الجد العام للقصيدة ورموزها الحاضرة فلسطين ولبنان ، إذ أن الحكاية التاريخية تنطوي علي الشجاعة والانتصار رغم كل ظروف القهر ، حيث استطاع صقر قريش أن يهرب من بطش العباسين وان يعبر البحر إلى الأندلس وان يدخل اشبيلية وان يقهر يوسف الفهري وان يحارب شارلمان وان يشيد واحدة من اعظم الممالك آنذاك ، فمن أين لفلسطين ولبنان واحدا مثل صقر قريش نكاتبه ونستنجده ؟
يا سيد الحلم أن المحيطات قامت
ترش المياه علي رأسها
من فيوض التأسي بنار الشعوب
وهذي الجموع
أتـتّني لتسأل عن خيل طارق
خلت العبور سيغدو إليك
وهل أنت ترمقناه من بعيد
فلا ابن زياد ولا الأمنيات
في قصيدة ( النهر المتجمد إدانة للزمن الغريب ، والنهر المتجمد يرمز إلى ذلك الخلل التاريخي في المسيرة العربية ، ممثلا بزعمات وقيادات وأحزاب وأحداث تركت بصماتها علي الحاضر ، وحتى يعطي الشاعر لقصيدته ذلك العمق التاريخي أو ـ علي أدق وصف ـ ذلك الامتداد ، لجأ إلى الرمز المستوحي من الصفحات السوداء في تاريخنا الطويل :-
بل كيف تشير لمحكمة التاريخ
وأنت القاضي والمذنب والسجان
وأنت الفتنة والردة والامية والأغلال
وفي موقع أخر :-
لن تلقانا غير عجول
تحلبها المحنة والليل
وصوت الحزن وسجن البحر
وبعض زبانية الدجال .
وفي موقع أخر :-
والفتح إليك أيا بيروت علي مزمار الكأس
يهز البطن بكل عواصم هذا الوطن المخصي
وليس ربوات العنت المفروسة
في ثوب المطر الفصلي
سوي دعوة أم في خيمة برق قد نصبت
قبل ولادة نوح والطوفان
لكن يؤخذ علي عارف الخاجة انه يلمس الرمز التاريخي لمسا سريعا ولا يستثمره كحدث تسكن في ثناياه مأساتنا الحاضرة ، ومن ثم لا يستولد منه عناصر جديدة ورموزا جديدة إسقاطها علي الواقع بل يفضل الانتقال إلى حدث أخر ليلمسه عن بعد وهكذا ، بحيث يبدو الإسقاط التاريخي أحيانا في صورة دخليه علي التجربة الشعرية بدليل انك تستطيع أن تسقطه من السياق دون أن تتأثر القصيدة .
لقد اكثر بدر شاكر السياب من ارتياد الأساطير والموروثات العربية التاريخية والدينية ، مع انه كان أستاذا في توظيفها إلا انه اتهم من قبل بعض النقاد باستعراض عضلاته الثقافية دون مبرر واكثر ما نخشاه أن يطال شاعرنا عارف الخاجة مثل هذا الاتهام إذا لم يتجاوز ما أشرنا إليه من مزالق في ديوانه الجديد وهو قادر علي ذلك يمثل الشاعران عارف الشيخ والدكتور احمد أمين المدني الاتجاه المحافظ في الشعر الاماري ، واعني به ذلك الاتجاه الذي لا يخرج عن حدود القصيدة العربية البيتية التي رسم لها أطرها القانونية الخليل بن احمد الفراهيدي ـ من حيث الوزن ـ بينما حصرها العرف الشعري ـ أن جاز التعبير ـ في مضامين محددة وأغراض شعرية متوارثة إلى يومنا هذا .
عند الدكتور أحمد أمين المدني وعارف الشيخ
ويمكن القول أن الدكتور المدني قد تمثل هذا الاتجاه بحرفيته وأغراضه وحتى بقاموسه اللغوي في ديوانه الأول المطبوع في دبي عام 1968 بعنوان ( حصاد السنين ) ، فأنت تقرأ هذا الديوان لمن الغلاف فلا تجد ما يشير إلى موطن صاحبه ، لان الصور والألفاظ والتعبيرات مستوحاة من التاريخ الأدبي وليس من البيئة ، أو من خصوصية اللغة ، أو من تجربة خاصة ذات نكهة محلية وجذور عربية مثل قوله :-
ربوع البطولات مسرى النجوم ومغني الفراشات والزنبق
ونبع الأماني مطل الرؤى ومنطلق الحلم الشيق
تباركت أرضا يمر الربيع عليها ببرقه الأزرق
فمثل هذا الشعر لا يحمل خصوصية محلية ، ويمكن أن يكون قائلة من مصر أو اليمن أو فلسطين .
من هنا لم اعثر في ديوان الشاعر علي أية إشارات أسطورية أو دينية كما لم يكن هناك توظيفا بيئيا علي صعيدي اللغة والمضمون ، بينما كثرت الإشارات ولدلالات الأدبية المحافظة ، والمرتبطة تاريخيا بحياة الشعر العربي ومسيرته فضلا عن بعض الأغراض الشعرية الفضفاضة ، التي تنادي بالمثل الرومانسية التي عرفها الشعر المهجري ، وقد اعترف الشاعر بذلك في مقدمه طويلة كتبها للديوان اذ يقول : "قصائد هذه المجموعة في كليتها مهما اختلفت مضامينها وتنوعت أشكالها فان شعورا واحدا من الحب والألم والحنين يجمع بينها ، شعور الشباب والقلق علي مشارف عصر جديد ، مصطحب في الآراء متنازع في الأهواء
ومع أن الشاعر تحرر من قيود القافية في بعض قصائده ألا أن إيقاع الحداثة ظل بعيدا ، وظلت بصمات الخليل هي المسيطرة ، بينما وقع الشاعر ـ علي صعيد المضمون ـ في اسر الأغراض الشعرية التقليدية المتوارثة ، وهي سمة تظهر أيوضح ما يكون في قصائد زميله الشاعر عارف الشيخ ، فقصائد ديوانيه ( ذكريات ) و ( نفحات من الخليج ) ترتبط كلها بمناسبات ذكرها الشاعر مفصلة في كل قصيدة ، بخاصة ديوانه الثاني إلى صور في دبي عام 1981 م .
ومع أن معظم قصائد الديوانين ترتبط بمناسبات قد تجدها في أي قطر عربي أخر غير الإمارات مثل قصائده ألام ، المعلم ، الزواج بالتسعيرة ، ميلاد الرسول ، العام الهجري الجديد .... الخ ، ألا أننا لا نعدم إشارات محلية في الكثير منها ، تحمل في طياتها جزءا من المأثور الشعبي ، المتمثل في بعض العادات والتقاليد أو ذكرا لاسماء بعض الأماكن أو ترديدا لبعض الكلمات الفولكلورية ونحن نجد مثل هذا في قصائده هائم في العوير ، سباق الهجن ، دشداشتي وغيرها وكلها من ديوانه ( نفحات من الخليج ) ، وقد تضمنت بعض القصائد إشارات دينية تتعلق بالعرف أو العادة مثل ذكر الخمار في صفحة 11 وارتفاع المهور في صفحة 27
أما في ديوانه ( ذكريات ) فترد التضمينات الدينية والأسطورية علي سبيل التشبيه أو الاستعارة دون أن تستخدم فنيا لاثراء القصيدة بمدلولها وهو الاتجاه الذي تنبه مدرسة ابولو بقصد بعث الأساطير من مكمنها بصفتها من إنتاج الفكر الإنساني ، في قصيدته ( الغناء يغزو قلوب المشايخ ) يرد ذكر ( الاقيال ) ... وهي جمع قيل وهو من ملوك الجاهلية دون الملك الأعظم وفي قصيدته ( ليس للإنسان ألا ما سعي ) .. انظر صفحة 55 ـ يرد ذكر قارون وهامان وساسان وكسري وملك الرومان ... الخ ، وهي إشارات ترد في معرض الاستعارة أو التشبيه ولا توظف لغايات فنية كما انه لا يتم أي إسقاط معاصر عليها :-
راع حق الناس بعد الله ان شئت عيشا بينهم يا من عقل
كل من في الكون يفتي غير من خلق الكونيين باق لم يزل
أين قارون وهامان ومن حكم الأقباط والقوم الأول ؟
أين ساسان وكسري والذي ملك الرومان يوما فانعزل
تلك آثار فدلت بعدهم انهم سادوا زمانا في الملل
يتكرر الموروث التاريخي والديني في معظم قصائد ديوانه ( ذكريات ) . ، بينما تظل عناصر هذا الموروث خارج إطار التجربة الذاتية ؛ بمعني أن ( الرموز ) تستدعي من التاريخ لا يهدف الشاعر منها إلى إعادة صياغة الحاضر بعد استلهام كينونة الموروث وزخمة ومدلولاته وانما تستدعي لاستكمال معادلة المشابهة بين صورتين ، لذا يمكن إسقاط هذه الرموز أو استبدالها دون أن تتغير القصيدة كما نري في قصيدته ( القدس الحزين ) ـ صفحة 67 ـ ففي سياق تذكر الشاعر لامجاد العرب والمسلمين في القدس ، علي ضوء ما وصلت إليه المدينة ألان ، يرد ذكر عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد كرمزين للقوة والمجد العربي والإسلامي ، ولو جري تغيير استبدال اسم خالد بصلاح الدين فان شيئا علي صعيد السياق لن يتغير :-
يا ويح قلبي هل للسيف من عمر وأين خالد للباغي وذي الدخن
مالي أرى الناس أشباحا مصورة والأرض ملآي من الشحناء والضغن
لقد تعامل الشاعر عارف الشيخ مع الرموز الأسطورية والتوراتية كمفردات وليس كعناصر يمكن اعتبرها من مكونات القصيدة شكلا ومضمونا ، لذا اكثر من ايرادها لتلعب دور المفردة القاموسية دون أن يسعي لتحريك الرمز واثراء التجربة الفنية بدلالته ... ففي قصيدته ( ما بال فلسطين ضاعت ) اشاره للمخاطر التي تحيط بالقدس ، وقد تضمنت هذه الاشاره حديثا عن هيكل سليمان وحوارا مع موسي ونفيا لادعاءات اليهود في أن العهد القديم يجوز لهم السرقة وتعذيب الآخرين :-
مـــــــا بـــــــال فلسطين ضاعت وبنوده يذاقون المحنــــــــا
مســـــــــــــــري الاسلام مكبلة قد عطل فيه شعائرنــــــــــا
حاطت بالهيــــــــكل شرذمة والهيــكل حقا هيكــــلنــــا
صهيـــــــــون يهود مربـعنا قم يا موسي لتحدثنــــــــــا
قل : هل في شرعك تعذيب او تشريد من موطننــــــــــا ؟
ما قلناه عن الرموز الدينية المشار إليها فقوله أيضا عن أسطورة ( إيزيس ) التي يرد ذكرها في قصيدته ( إلى حبيبتي ) علي سبيل التشبيه ، وليس علي سبيل الثورة كما وردت في قصائد السياب ... وإذا افترضنا أن الشاعر هو ( أوزوريس ) حبيب ( إيزيس )، بدليل انه يخاطبها علي النحو التالي :-
يا ظبية البحرين يـــا إيزيس في دنيا الحســــــــان
يا من سكنت جوانحي روحي فداؤك والجنـــــــــــــان
ما أنت أول فاجع فــــي الحب من بعد التـــــــــــــــدان
فالوصل يعقبه النوي ولكل فاجعة زمـــــــــــــــــــان
وعسي الذي خــــــــــــلق النوي يقضي بوصل في ثوان
أقول : إذا كان الشاعر هو ( أوزوريس ) الجديد وحبيبته هي ( إيزيس ) فان خللا ما في الفهم للأسطورة يمكن استنتاجه من السياق لان الأسطورة لا تحدثنا عن ( جمال ) إيزيس بقدر ما تحدثنا عن ( جمال ) إيزيس بقدر ما تحدثنا عن ( بعث ) أوزوريس من جديد ووفق هذه الأسطورة ـ كما يقول فراس سواح ـ نجد الإله أوزوريس بطلا حضاريا يعلم المصريين الزراعة تساعده في ذلك أخته وزوجته إيزيس ( وفي إحدى المرات قام أخوه الإله سيث أو طيفون بحيلة خبيثة جعلته سجين صندوق خشبي فسمر عليه وقذفه في مياه النيل فطاف الصندوق حتى صب مع مياه النهر في البحر المتوسط وهناك تدافعته الأمواج حتى وصل إلى مدينة بيبلوس الكنعانية حيث علق بإحدى أشجار الشاطئ الوارفة وقد راحت إيزيس تبحث في جميع الأنحاء عن حبيبها الضائع إلى أن وجدته فعادت بالصندوق والجثة إلى بلدها لتعيد له الحياة ولكن سيث عثر علي الصندوق فقام بتقطيع جسد أوزوريس ووزع القطع في جميع أنحاء البلاد حتى يصبح من المستحيل إعادة الحياة إليها مرة ثانية ولكن إيزيس بدون يأس تابعت البحث مرة أخرى إلى أن وجدت الأجزاء جميعا عدا عضوا الذكورة الذي بقي مفقودا ثم أعادت له الحياة بمعونة أختها الإلهة نفتيس ) .
هذه هي ( إيزيس ) القديمة ، وهي تختلف جذريا عن ( ظبية البحرين ) التي جعلها الشاعر شبيهة إيزيس ، ولا أظن أن الحبيب قد تمثل دور أوزوريس ، الذي يعني الثورة علي المجتمع ، لان الدلالة هنا معكوسة ولا تنسجم مع السياق ولا أظن أن الشاعر أرادها علي هذا النحو!! من المؤكد أن إدراج ديوان ( سبع قصائد ) للشاعر احمد راشد ثاني تحت العنوان الكبير الذي وضعناه لهذه الدراسة وهو ( استدعاء الموروث في الشعر المحلي ) يحمل في طياته اعترافا بان قصائد الديوان تتسم بالحداثة في الشكل والمضمون ، رغم أنها مكتوبة باللهجة العامية ، وهذه الحداثة هي التي سوغت ( إقحام ) هذا الديوان في الدراسة رغم أننا أسقطنا كل الدواوين النبطية الأخرى في الإمارات .
ونعني بالحداثة هنا الروح التي تسود القصائد والهموم التي تصدر عنها والإيقاع الذي يعزف عليه الشاعر ، وهي اقانيم ثلاثة تخرج بهذا الديوان من دائرة الموروث النبطي لتدخله رغم معادلة اللغة الفصحى إلى قلب التجربة الشعرية الحديثة في الإمارات .
عند أحمد راشد الثاني
وإذا كانت طبيعة التجارب الشعرية السابقة التي تطرفنا إليها في هذه الدراسة قد تباينت في توظيفها للموروث الشعبي كما وكيفا وإذا كنا قد تمكنا من رصد هذا التباين وتحديد ملامح هذا الموروث ، فأننا نعجز بالتأكيد عن رصد ذاته لديوان احمد راشد ثاني لان الموروث لغة ومضمونا هو لحمة وسداه التجربة الشعرية في هذه القصائد ، فهي مجبولة به ، ومستقاة منه ومعبره عنه وناطقة بلسانه .
ومن المسلم به أن هذه الميزة تحسب لكل القصائد البنطية أو المكتوبة باللهجة العامية الشعبية وليس لقصائد احمد راشد ثاني وحدة ، لكن المؤشر الذي جعلنا نلتفت إليه في هذه القصائد ومن ثم سوغ لنا النظر إليها من رؤية الحداثة هو تعامل الشاعر مع التراث الشعبي وتوظيفه لعناصره في سبيل النطق بمعادلة حياتية جديدة غالبا ما يسعي إلى النطق بها الشعر الحديث ، بينما نجد أن معظم الأعمال الشعرية البنطية المطبوعة تنطق بما هو واقع في إطار الرغبة بتكريسه وليس في إطار المناداة بتغييره .
ونمني عن الذكر أن قراءة هذه القصائد لاحمد راشد ثاني ليست بالعملية السهلة لمن لا يعرف لهجة أهل المنطقة فضلا عن العادات والتقاليد السائدة ، ومع أن الشاعر شرح في هوامش ديوانه الكثير من هذه العادات والتقاليد والألفاظ ألا أن القصائد ستظل مغلقة علي غير العارف بها ، لان نقطه الجذب في الديوان تكمن في الإيقاع الداخلي للألفاظ بما يتضمنه من إيحاءات لا يدركها ألا من عاش وعاني في هذه المنطقة .
قصيدة ( مليت هذا الألم ) ـ وهي القصيدة الأولى الأولى في الديوان ـ تلخص كل ما ذهبنا إليه ونختزل تجربة الشاعر الفنية والمضمونية ، فضلا عن كونها انضج قصيدة في الديوان واقربها إلى روح الحداثة واكثر توظيفا للمأثور الشعبي وتحقيقا لمعادلته الرمزية مع الواقع .
تبدأ القصيدة برسم ثلاث دوائر نفسية متداخلة ، تحمل الأولى المهم الذاتي أو الشخصي بينما تؤطر الثانية للمهم الاجتماعي المستمد من مجموع الهموم الذاتية للآخرين وتمتد الدائرة الثالثة بالتجربة إنسانيا لتعمق الطرح الذاتي ليصبح طرحا إنسانيا .
يكمن المهم الذاتي أو الشخصي في حالة الضياع والشقاء التي يعاني منها الشاعر ويعبر عن ذلك بافتتاحية القصيدة :-
إلى متي يا شقا مزروع في يوفي
إلى متي يا ألم تسقي سدر خوفي
إلى متي إحنا بحري ما اله ساحل
كلن دهن مركبة والكل في قفال
ألا أنا سامرت ويا الهوي راحل
لقد استمد الشاعر ملامح الصورة النفسية له من البيئة السدر ، البحر ، الساحل ، المركب ، قفال ـ نهاية رحلة الغوص ـ سامرن ـ أي سمرت به الرياح والأمواج لعرض البحر ـ فمن خلال عناصر البيئة الشعبية ودراميتها نسج الشاعر معاناته النفسية وإحساسه بالشقاء والضياع معطيا بذلك لصورة عدة أبعاد ... أقربها إلى القارئ العادي البسيط معاناة راكبي البحر ممن يعجزون عن العودة مع الرفاق وابعدها أو أعمقها ذلك التمازج بين البيئة ومعاناة راكبي السفن وبين الحالة النفسية للشاعر ، بمعنمي أن الشاعر قد نجح في استدعاء عناصر البيئة والموروثات .
ليقدمها في بعدين ، الأول توثيقي والثاني وظيفي فني .
الدائرة الثانية التي تتسع لتشمل المجتمع المحيط بالشاعر تبدأ بقوله :-
إلى متي يا بحـــر
تحدي شادرنا
إلى متي بالحلم
نحمي مواقعنا
الي متي نبغي نسمع صوت حربية
أيدق يجمع مياديفك بكوسية
إلى أن يقول :-
والطبل لو دقته تطعني علي النهمة
محدترا هالزمن بيخاف من طبله !!
في هذه الصورة يعكس الشاعر حالة تقاعس اجتماعي ، هي امتداد لاحساسة الفردي بالشقاء والضياع ، وقد استدعي الشاعر إحدى الرقصات الشعبية المعروفة ( رقصة الحربية ) ليحملها الرمز الذي يريده ، فقد كانت هذه الرقصة ـ ومثلها العيالة ـ بمثابة النفير العام ، حيث يجتمع القوم علي دقات الطبول بأمر من شيخ القبيلة ، والشاعر يستدعي هذا اللون من المأثور الشعبي ليحقق معادلتين ، الأولى التعريف به ، وهي المعادلة الابسط والأقل إلحاحا عليه والثانية هي توظيف عناصر هذا الموروث لخدمة الفكرة التي يريدها وهي لقناعته بان ( حماية المواقع ) لا تكون بالحلم ولا بطول الحربية ( محددا ترا هالزمن بيخاف من طبله ) .
الامتداد الثالث للمعاناه يرتبط بنسخ إنساني وهو الإحساس المفرط لدي الإنسان المعاصر بخطورة التطور التكنولوجي عليه ، وهو إحساس بدأ يظهر في الأدب العالمي مع قصائد اليوت ( الأرض الخراب ) ... ووجدنا له إشارة صريحة في قصائد شوقي ، وانعكاسا مريرا في قصائد السياب ، الذي تحدث عن الإله والصراع معها كثيرا ، وفي هذه القصيدة نجد إشارة إليه تكمن في المقطع الأخير الذي يقول :-
إلا أنا مجروح
مجروح مثلك ـ يا بحر ـ
مثل كل اللي بيحبك
مجروح ، جرحي خبق
وخبوههم أبار
أنا اداوي الخبق
وابيته ببراز
لكن خبقهم ترا في اليوف يتوسع
لا بالملح ، لا بالرمل ، لا الطين يترقع
إلى متي ما بيتك تحمل علب سردين
بتروش عالسيف كل ليلة قواطي البير
تخبرني كل يوم غرب اللي يرسلوني ....
في هذا المقطع ، يتحدث الشاعر عن الآبار المحفورة في أعماق البحر ويشير الي المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي ارتبطت بها وأثارها علي السكان ، الذين احترفوا صيد السمك واللؤلؤ .... وقد توسل الشاعر إلى هذه المعاني بصورة من البيئة ، وظفها كأروع ما يكون للدلالة والرمز ... حيث يعقد مشابهة بين جرحه وجرح البحر ( البئر ) ، لكنه يستدرك انه يداوي جرحه بالبزار ـ وهو عقار شعبي ـ بينما جرح البحر يزداد اتساعا ..ويستطرد الشاعر واصفا الذين ركبوا البحر ودخلوا إلى أعماقه حيث يرمز إليهم بعلب السردين وعلب البيره التي يرمونها في البحر فتصل إلى الشاطئ ( وتخبرني كل يوم غرب اللي يرسلوني ) ، وقد جعلها الشاعر هوية وجنسية لأنها طارئة علي المنطقة .
جميع قصائد الديوان تحمل هذه الودائر المتداخلة من الهموم ، ومن الواضح أن استخدام الشاعر لتجربته الشعرية وموهبته اكبر من اعتماده علي ثقافته أو قراءاته ، لذا اتسمت عناصر القصيدة عنده بالبساطة وكانت اكثر التصاقا بالأرض والبيئة والمجتمع مما قربها من الناس ، وقد أعطت عناصر البيئة والموروث الشعبي للقصائد نكهة خاصة مميزة تغلب عليها السمة الدرامية ، وتتعدد هذه العناصر والمأثورات الشعبية وتتعدد معها دلالاتها الرمزية ، والقائمة طويلة نذكر منها ذكره للرقصة المشهورة الحربية ورقصة الرزفة وفي باب الطب الشعبي نجد ذكرا لعقار البزار وهناك إشارة لسفينة البوم المشهورة وترد في القصائد إشارات لهسس لوزار ـ وهو سائل لزج علي جلد الأسماك عادة ما يعلق في البحارة ـ وفي باب الألعاب الشعبية نقرأ عن التيلة والقبة والحيلة ومن الآلات الشعبية ( الهبان ) إلى جانب عشرات الكلمات والمصطلحات الفلولكلورية ذات الدلالة العميقة .
بقيت لدينا مجموعتان شعريتان هما ( غربة في زمن العشق ) و ( لوعة البعد ) إلى جانب ثلاث مجموعات من الخواطر هي ( منتهى العذاب ) و ( خطوة فوق الأرض ) و ( أنا المرأة الأرض ) واظن أن الكتاب الأول هو الأجدر بالوقفة الأطول في هذه الدراسة ، لان التجربة فيه تسير في الطريق النضج فضلا عن تنوع مصادر المأثور الشعبي فيها .
غربة في زمن العشق
أن أول ما يلفت النظر في هذا الديوان هو قاموسه الشعري المستقي من البيئة الطبيعية والاجتماعية ، والموظف لخدمة المضمون في اكثر المواقع ، رغم تباين الدلالات الرمزية من لفظه إلى أخرى ، حيث تكثر ورود ألفاظ ذات دلالة مثل البحار ، المحار ، الشاطئ ، المرافئ ، الهيرات ، الدانات ، الهامور ، السيف ، الغواص ، البحار ، الصياد ، اللؤلؤ ، القراصنة .... الخ ويلاحظ أن مفردات هذا القاموس ذات علاقة مباشرة بمياه البحر ومجتمع الغوص علي اللؤلؤ ، بما يدل علي المرحلة الزمانية التي تدور فيها المعاناة ، كما أن لبعض هذه الألفاظ مدلولاتها الرمزية التي يمكن إسقاطها علي المجتمع مثل ( الهامور ) ... وفي القصيدة حديث عن الصراع معه :-
رحم الله ابي
كان شهما وتقي
...............
جلب الربح الوفير
لهوامير المدينة
فهوامير المدينة
سرقت كد أبي
سرقت عمر ابي
وقضي العمر أسير الغوص
باع يوما عقد أمي
سدد الدين لهامور حقير
ولقد مات صغير
والهامور من اسماك البحر المعروفة في الامارات ، وهو من الأسماك الكبيرة المكتنزة لحما وشحما ويضرب المثل بكبرها دائما خاصة عند الصيادين وهي غير محببة لهم ، لأنها ـ في الغالب ـ تعلق في باب ( الكركور) فتمنع صغار السمك من الدخول إليه ، وقد تفلت في النهاية ، فنهي لا تصاد ولا تسمح بصيد أخر ، لذا يقولون في المثل الشعبي ( مثل الهامور جالس في البابه )
لقد عرف مجتمع الامارات بشكل خاص والمجتمع العربي في منطقة الخليج بشكل عام بعض مشكلات المجتمعات الرأسمالية ، بخاصة عندما كان يصطدم الغواصون والصيادون بأصحاب السفن وكبار التجار الذين يرمز إليهم دائما بالهوامير ، وقد وظفت الشاعرة هذه الكلمة المستوحاة والمستفاه من البيئة للتعبير عن الهموم والمعاناة التي عاشها الأب ، وهو ليس توظيفا جديدا علي أي حال ، لان معظم الشعراء في المنطقة يستخدمونه ويوظفونه للدلالة علي هذا الصراع .
وإذا كنا قد وجدنا في ديوان احمد راشد ثاني حنينا لحياة البحر الماضية التي بدأت تلوث بقدوم الأغراب ، فأنا نجد هنا مثل هذا الحنين لعهد المحار عندما كان الغوص علي اللؤلؤ عماد الحياة في المنطقة ، وعلي الرغم من أن المجتمع آنذاك عرفة الصراع الطبقي بصورة مبسطة ، الا ان نوعا من التكافل الاجتماعي ساد حياة البحر ، وكانت العلاقات الاجتماعية تصطبغ به ، حتي يمكن القول ان ملامح الحياة الاجتماعية كانت اكثر وضوحا مما عليه ألان ، لذا نشأ الجيل الجديد وفي نفسه حنين إلى الماضي ، إلى عهد المحار ، رغم وجود ( الهوامير ) :-
حلمت بان لنا عالما
فهلا تجيء معي والأنام سكاري
نجدد عهد المحار
نعانق أسيافنا والبحار
ونعزل بالحب ضوء النهار
في قصيدتها ( معلمي الجديد ) و ( شهريار ) تستدعي رؤى سالم الأسطورة من كتاب ألف ليلة وليلة دون أن تحسن توظيفها ، بحيث يرد اسم شهريار ، خارج نطاق الدلالة الرمزية التي نعرفها ، ولا نجد دلالة حاضرة أو مبتكرة ، غير علاقة المشابهة السطحية بين الشاعرة ومعلمها الجديد ( شهريار ) !!
والف ليلة وليلة مجموعة حكايات خيالية ترد علي لسان السلطانة شهرزاد في معرض تسلية أختها دنيا زاد وبحضور زوجها الملك شهريار الذي كان يقتل زوجاته انتقاما من خيانة إحداهن واشهر هذه الحكايات التي يقال أنها تزيد عن 264 حكاية السندباد وقمر الزمان وعلي بابا ..
تقول الشاعرة :
ما زلت احيا قصة من الف ليلة
وسندباد واقعي مغامر رحال
قد اكثر الرحيل لعالم جديد
فسيدي وشاعري ممثل جديد
لدور شهريار
وفي قصيدتها الثانية تكرر ( شهريار واقعي ) بعد أن كان في الأولى ( سندباد ) .. إذ تقول :-
طوبى لمن معلمي لشهريار
أم للتي تحب شهريار
مجنونة تلك التي تحب شهريار
فشهريار واقعي .. الخ
أن عيب معظم الشعراء الشباب في الامارات يكمن في سعيهم نحو التضمينات الأسطورية أو الدينية دون الإحاطة بها وبدلالاتها الخاصة السابقة علي العمل الفني الجديد ، وهذا القصور يؤدي في الغالب إلى خلل في السياق الشعري والي ما يشبه التضارب بين الدلالة القديمة .. والدلالة الحاضرة ، وتتقزم معظم هذه التضمينات في الغالب لتصبح مجرد زخارف بديعية وتشبيهات يرزح تحت وطأتها الشعر .... والمقطع السابق من قصيدة رؤى سالم يحمل مثل هذا الخلل ، إذ أن العلاقة بين سندباد الرحالة وشهريار العاشق والقاتل تبدو غير واضحة في السياق لعدم وضوح ، الأسطورة في ذهن الشاعرة .... ولا ندري أي سندباد تريد ... هل هو الملك ، ام الحمال ام السندباد البحري وثلاثتهم كما قد لا تعلم الشاعرة يحملون اسم السندباد ويحتلون مواقعهم في ألف ليلة وليلة .
ديوان لوعة البعد
في ديوان ( لوعة البعد ) لاحمد راشد سعيدان لم أجد أثرا للموروث الشعبي أو الأسطوري أو الديني ، بل ولم أجد علاقة متينة بالموروث الشعري القديم رغم أن كاتبه المقدمة ، سهام ترجمان مؤلفة كتاب ( يا مال الشام يا الله يا مالي ) ـ كما ورد في المقدمة ـ تدعي أن الشاعر هو قيس ابن الملوح ، تتقمص روحه ... وان ( قضيه الشاعر احمد راشد ما هي ألا امتداد لقضية قيس بن الملوح ) ولعلها مناسبة أن اكرر واذكر بضرورة الحجر علي كاتبتي مثل هذه المقدمات التي لا تحمل تزويرا للحقيقة فحسب ، بل وتحمل في طياتها بذرة فناء هذه الموهبة الواعدة التي تحتاج إلى رعاية صادقة وليس نفخا علي النحو الذي أشرنا أليه .
ولكننا مع ذلك نسوغ للشاعر جرأته في نشر ديوانه ، ونحسب له ذلك من باب قصائده تعكس رغبة في تعاطي الشعر وموهبة أو إلمامه بفنونه الإيقاعية ، واظن أن الشاعر سيكون اكثر إقناعا لو وظف موهبته تلك والماماته هذه في طرق موضوعات اكثر قربا من الناس والصق بالبيئة ، وهي من طوله غنيه وثريه ، لفي القاموس والإيقاع ..
خواطر ظبية خميس وفرح مختار
أما خواطر ظبية خميس وفرح مختار ، فتطرح علي بساط البحث مشكلة كبري يعاني منها الوسط الأدبي وهي عدم أدراك كنه الخاطرة ومواصفاتها وعدم الدربة علي كتابتها .. والخاطرة ليس تهويما لا معني له ، بل هي فكرة وانفعال ، تقترب كثيرا من عالم الشعر دون أن لا تنزلق في معادلة الوزن والإيقاع .... لكن ما نراه في الخواطر المكتوبة والمطبوعة لا يحمل أي من هذه المواصفات ، مع اعتراف أولى بان فرح مختار في خواطرها اقدر علي الصياغة اللغوية وارق في التعبير ... لكني لم أجد في خواطرها اقدر علي الصياغة اللغوية وارق في التعبير ..ز لكني لم أجد في خواطرها المطبوعة ما يربطها بالواقع ، أو بالموروث علي مختلف صورة .. بينما نجد ذلك في خواطر ظبية ( انظر خطوة فوق الأرض ) ففي صفحة 45 يرد سمك القرش ، وفي صفحة 66 ترد ألفاظ مثل السفينة ، الشراع ، المرفأ .. الخ وهي مستوحاة من البيئة وربما من تجربة الشاعرة في الترحال ، لكن المعادل الرمزي لهذه الألفاظ مفقود تماما ، بحيث تبدو الخواطر في مجموعها وكأنها ترجمات لاشعار أجنبية حكام بها مترجم رديء ، فلا هي نقلت إلينا الفكرة ، ولا هي قدمت لغة مشرقة .
لن أتوقف عند كتاب ( خطوة فوق الأرض ) حتى لا أقع في التكرار ، إذ سبق لي وان وقفت معه مطولا ، وتساءلت يومها عن معني المقطع التالي الذي ذيلت به الكاتبة كراستها .
يحتضن البدر خاصرتي
وتداعب صدري النجوم
فاغرد ضاحكة
وادرك أزلية رعشة الشمس
والظل
وانتفاضة المجرة بين ساقي
وسقف السماء
لكن الذي أردته في نهاية هذه السلسلة ، وهو الإشارة إلى أن فن الخاطرة هو اصعب الفنون النثرية ، لانه يحتاج إلى ذكاء وقوة ملاحظة وقدرة علي استنباط الواقع وسبر أغوار المستقبل .. ثم أن كاتب الخاطرة يجب أن يكون اقرب الناس إلى البيئة ، وأكثرهم تعاطيا لها وتفاعلا معها ، لكن ، ومن خلال استقراء الكتب الثلاثة التي بين يدي ، وجدت أن كتاب الخواطر في الامارات مازالوا ابعد الناس عن ذلك .
استدعاء الموروث الشعبي في الأعمال النثرية
تفاوتت عملية توظيف الموروثات الشعبية في الإمارات – في الأعمال الإبداعية – بين أديب وآخر ، فوجدنا توجها من قبل البعض نحو الأساطير حيث يتكرر ذكرها في قصائد جيب الصايغ ، ووجدنا توجهاً آخر نحو التاريخ الإسلامي – في معظم قصائد عارف الخاجة – بينما يوثق الدكتور مانع العتيبة في قصائده الموروث الشعبي من عادات وتقاليد كانت سائدة في عصر الغوص ونجد مثل ذلك في قصص محمد المر وعبد الحميد أحمد وعبد الرضا السجواني مع تفاوت في عملية توظيف هذا الموروث.
ولنبدأ برواية ( شاهندة) لراشد عبد الله وهي أول عمل روائي يصدر لكاتب من الإمارات وقد صدرت الرواية عام 1974 في 135 صفحة من القطع المتوسط حتى ظن أحد الباحثين المصريين أنها رواية مصرية فأدرجها في بحث نشرته مجلة (فصول)... وإذا كنا سنتوقف – في معرض تناولنا للإبداعات الأدبية الأخرى – عند إشارات متفرقة للموروث الشعبي في محاولة للربط بينها في إطار توصيف كامل للظاهرة – فإنّ وقوفنا عند ( شاهندة ) لن يكون ضمن هذا الإطار لأنّ الرواية لا تتضمن إشارات فولكلورية فقط وإنما تقوم كلها في معمارها الفني والمضموني على أسس من الموروثات الشعبية حيث تصور الرواية الحياة الاجتماعية التي سادت إبّان عصر اللؤلؤ.
وشاهندة هي محور الرواية؛ فتاة جارية ، انتهي بها الأمر لتصبح زوجة لأحد الملوك ومن خلال رحلة شاهندة بين الفقر والنعيم يرسم المؤلف صوراً من الحياة الاجتماعية والاقتصادية السائدة آنذاك ، في الساحل والداخل ، حيث تقوم مدن وقري وهمية يتخذها المؤلف محوراً لتحرك أبطاله وشخوصه ، فهو يتعرض لمهنة الغوص على اللؤلؤ وصيد الصقور ويتعرض لتقاليد الزواج ويشرح واقع تجارة العبيد (النخاسة) وينجح في رسم صور الشقاء التي مرت بالمنطقة في أوقات كثيرة من خلال الشخصية المحورية لروايته (شاهندة) ... ومن خلال السياق نفهم أن شاهندة فتاة جميلة غير عربية تقع مع والدها (شهداد ) ووالدتها (حليمة ) في قبضة (سالم) أحد تجار الرقيق فيبيعها إلي رجل موفور الجاه والمال حيث تعيش في بيئة معززة مكرمة وتزداد مكانتها بعد اختيار والدها ليكون نوافذه لسالم ولكن علاقة شاهندة بمحمود بن سالم ثم وفاة والدها في البحر، يدفعان مالكها حسين إلي بيعها ، وتنتقل شاهندة من تاجر إلي آخر ومن تجربة إلي أخري حتى تقع في قبضة تاجر الرقيق (جابر) فيزوجها لكنه سرعان ما يطلقها في الصحراء انتقاماً منها فتعيش هائمة على وجهها ردحاً من الزمن إلي أن تلتقي بقافلة من الصيادين فتصطحبهم إلي المدينة حيث تنجح في الوصول إلي القصر كزوجة للملك وتنتهي القصة بانتقام شاهندة من محمود أول من استرقها.
من الواضح أن المؤلف يريد أن يرسم ملامح عامة للمجتمع آنذاك من خلال سرد مأساة أسرة غير عربية ، وصلت الساحل بحثاً عن لقمة العيش فوقعت بأيدي النخاسين ، ولعل رغبة المؤلف في عرض وقائع اجتماعية وألوان من الموروثات الشعبية السائدة آنذاك هي التي جعلته لا يكترث كثيراً بتسلسل الأحداث وتناميها ومنطقيتها في أحيان كثيرة حيث يتم الدخول إلي الحدث بسرعة تشتت الشخصيات وتجعل بعضها يبدو هامشياً ؛ يمكن أن يسقط في السياق دون أن تصاب الرواية بالخلل.
لقد فطن المؤلف إلي شرائح تلك البيئة (الاجتماعية ) فضّمن روايته العديد من مظاهر الحياة الشعبية مثل عادات الزواج وصيد الصقور، لذا اكسب روايته واقعية مؤثرة ، بحيث يمكن التعامل – في بعض الصفحات – مع الواقع الحرفي المصور وكأنه مقالة في الموروث الشعبي ، ولم ينكر المؤلف نفسه توجهه هذا ، حتى في مقدمة الرواية التي كتبها ملخصاً هدفه العام من الرواية حيث يقول: ( قصتي هذه تنبع من واقع عشناه بين حبات الرمال المحترقة ، في حياة جافة قاسية ، أكتبها لهذا الجيل الذي يبني بقوة سواعده بلداً عظيماً .. أكتبها للأجيال القادمة لتكون لهم نافذة يطلون منها على حياة آبائهم وأجدادهم فتملؤهم بالعزة والثقة).(1)
صور تحّدي البحر ستتكرر معنا في الحلقات القادمة حيث تجدها عند معظم كتاب الإمارات وهي جانب من حياة التجارة والغوص علي اللؤلؤ وصيد الأسماك، وهي الحرف التي امتهنها سكان المنطقة ، واكسبت حياتهم الاجتماعية بالتالي نمطها المميز، فراشد عبد الله يصور البحر كالذئب .. " ونظر إلي مياه الخليج الثائرة ، الأمواج تعلو وتعوي كالذئاب ، لقد ذهب إلي الساحل يستلهم من قسوة المياه طريقة جديدة للبحث عن كسرة خبز .. لقد أصابته حالة من الجنون فقرر أن يتحدي مياه الخليج في يوم عاصف"(2)
علاقة سكان الخليج بالبحر تتسم بهذه الجدلية ، فمع أنَّ البحر كان مصدر الرزق الأساسي سواء ركبوه للتجارة أو غاصوا فيه بحثاً عن اللؤلؤ والسمك، ألا أنه كان بالمقابل مصدر الخطر أيضاً ، وفي الموروث الشعبي لأهل المنطقة الكثير من القصص حول غرق السفن أو صراع (الغاصة) مع أسماك القرش ، وقد انعكس هذا الصراع على حياة الناس في الساحل والداخل، ويمكن القول إن البحر قد ساهم إلي حد بعيد في الفرز الطبقي للمجتمع ، حيث أوجدت حياة البحر شرائح متباينة اقتصادياً واجتماعياً ، فكان هناك (النواخذ) وهو قائد السفينة ، ثم الغواص ، والسيب والمجدمي والوليد أو التباب .. ونحن نجد ذكراً لهؤلاء في رواية (شاهندة ) وذلك في إطار تصوير جانب من قيم البحر ؛ التي تضفي على ( النواخذ ) هالة خاصة ، حاول المؤلف أن يقفز فوقها درامياً بإدخال عنصر درامي جديدة علي الرواية يتعارض مع قيم المجتمع آنذاك وهو أن يتولي أحد العبيد مهمة قيادة السفينة ومن ثم يصبح رباناً .. " سوف أقبل التحدي أيها النخاس القذر ، سأذهب بالتحدي إلي نهايته أيها الربان اللص ، سوف أجعل منك يا شهداء رباناً " وفي موقع آخر من الرواية إشارة تحمل في طياتها إضاءة مباشرة لهذه المسألة(3) تقترب من أسلوب المقالة حيث يقول :-
" عرضت الزوجة أمر شهداد على زوجها ولكنه لم يوافق عليه فهو عبد مملوك فكيف يقود العبد سفينة الأسياد ؛ فالعبد هنا لا يحق له أن يملك أو يمتلك والعبد لا يحق له أن يأمر ، له الحق في سماع الأوامر وإطاعتها فقط والربان عليه أن يصدر الأوامر وعلى الجميع السمع والطاعة والربان لابد أن تكون له شخصية السيد وليست شخصية العبد".(4)
معظم هذه الفقرات تصلح لأن تكون دراسة وصفية لمجتمع البحر ، وما يكتنفه من عادات وتقاليد وقيم ، وأظن أن القارئ العادي سيخرج بفكرة موجزة عن مجمل هذه العلاقات ؛ وهي – كما تبين المقدمة – هدف الكاتب من الرواية ، ولكنه بالمقابل سيلاحظ أن استدعاء الموروث الشعبي المرتبط بالظاهرة الاجتماعية يرد في الرواية بصورة تقريرية ، ومع أننا حيال عمل روائي يسمح بمثل هذا التناول وهذه التقريرية ، إلا أنه كان بالإمكان توظيفها فنياً بحيث لا تخرج لغة السرد الروائي من إطارها الفني إلي إطار فني آخر هو المقالة ، بخاصة وأن المؤلف فجر عنصراً درامياً في روايته، معارضاً لحركة المجتمع – مثل تعيين أحد العبيد كنواخذ – وكان بإمكانه أن يستغل المتغيرات الاجتماعية التي يمكن أن تطرأ على قيم المجتمع بسبب هذا الإجراء لكشف مجمل العلاقات الاجتماعية والطبقية وما يرتبط بها من موروث شعبي ن في إطار فني ينسجم مع البناء الروائي وليس المقالة الروائية ، لذا جاء استعراض هذا الحدث بارداً رغم سخونته ، ورغم أنه وقع على القرية كالزلزال كما يقول المؤلف :" هناك زلزال في القرية ، لقد عرفوا أنني أفكر أن أجعل من شهداد رباناً ، فتجمعوا خارج المسجد بقيادة سالم وعلي"(5) وفي موقع آخر يقول : " أيها الرجال سأحكي لكم حكاية من عرض البحر وما أكثر الحكايات ونحن نبحث عن اللؤلؤ ففي عرض البحر أيها الرجال تتضح معادن الرجال ن أن عاصفة علي السفينة أو هجوماً من الأسماء الكبيرة عليها أو أمواجاً عالية أو نقصاً في الماء والغذاء تكشف معادن الرجال".
قد يكون اختيار شهداد ( العبد ) ليكون (نواخذ ) – وهي وظيفة لا يرقي إليها
إلا قادة القوم ، توطئة لنقلة أخري في الرواية تبدو هي الأخرى غريبة علي
حركة المجتمع آنذاك وأقصد بها وصول أبنه هذا العبد ( شاهندة ) إلي مرتبة
عالية في المجتمع المعادل الفني لها ، أو علي الأقل لو أمكن تغطية هذه
النقلة بفلسفة واضحة في الحب ، حيث يظهر المؤلف رغبة جامحة لدي شاهندة كي
توقع بابن النخاس في حبائلها انتقاماً منه ، والانتقام بالحب عقدة باريسية
تتكرر في أعمال الكتاب الفرنسيين ، ونجدها أيضاً في ( دعاء الكروان) لطه
حسين ؛ الذي نقلها بدوره عنهم ، وقد لاحظت أنها هنا ترد في إطار قدري مفروض
على بطلة الرواية:" نعم، هذه هي المشكلة ، فحبيب ابن قاتلي فكيف أعشقه هذا
هو قدرنا"(7) وفي موقع آخر من الرواية : " ظلت شاهندة تفكر في هذا المشهد ،
مشهد محمود وهو يقف أمامها يرغبها ولكن لن ينال مني ذلك الشاب الذي سجن
أبوه حريتنا ، سأجعله يدفع ثمن جريمة أبيه، سأقتله بحبي وجسدي الثائر
وسأجعل منه أضحوكة القرية كلها".(7)
هذا هو الإطار العام للرواية ، وهذا هو أسلوب راشد عبد الله في سرد جانب من الموروث الشعبي المتعلق بحياة البحر ، ونحن لا نعوم في الرواية صوراً من قسوة الحياة آنذاك ، يصعب أحياناً تصديقها ، لكن قانون البحر كان فوق الجميع وتجاوز قيمه وعاداته وتقاليد وأعرافه جريمة كان يعاقب عليها أحياناً بالقتل ؛ وقد سرد المؤلف واحدة من القصص المقحمة على البناء الروائي ؛ لكن المعبرة في ذاتها ، لو تم تناولها كجزئية أو كوثيقة من وثائق الحياة الاجتماعية آنذاك.
يقول راشد عبد الله : "قلّ الماء من السفينة وأمر النوخذة بتقسيم ما يقي من ماء وكان نصيب كل فرد في اليوم الواحد فنجاناً فقط بينما هو كان يشرب من الماء دون حساب ولم يتقيد وكنا نبلل التمر بماء البحر قبل أن يوزع علينا وتسلل السبيل الموجود بالسفينة ذات يوم وتحت وطأة الجوع والعطش سرق بعض التمر وشرب بعض الماء وقبض على الرجل متلبساً بهذه الجريمة فإذا حدث أيها السادة ؛ جاءوا بالرجل فوق السفينة وأمر بربطه في الساري وجمع الرجال ليشهدوا هذا المشهد اللعين ثم أمر بجلده ثم أمر بكيه بالنار ثم أمر النوخذة بربط بعض الحجارة في رجليه والقوة بعدها في البحر"(8)
هــــــــوامش
(1) رواية شاهندة / ص3 .
(2) انظر صفحة 8 وما بعدها في الرواية.
(3) ص27 – الرواية .
(4) ص29 – الرواية.
(5) ص31 – الرواية .
(6) ص52 – الرواية .
(7) ص 47 – الرواية.
(8) ص34 – الرواية.
ذلك الزمان لعبد الرضا السجواني
تعتبر المجموعة القصصية ( ذلك الزمان ) لعبد الرضا السجواني – وهي من إصدارات الإدارة الثقافية في وزارة الإعلام والثقافة من أكثر الأعمال القصصية المحلية تواضعاً من حيث التكنيك القصصي والنضج الفني لكنها – بالمقابل – من أغناها على صعيد التأثر بالموروث الشعبي ( الفولكلور ) ، ولعل اضطراب التكنيك القصصي أثر على لغة المجموعة فجاءت عفو الخاطر ينتابها ضعف في التركيب اللغوي والنحوي، برز كأوضح ما يكون بلجوء الكاتب إلي أسلوب السرد الإنشائي الذي يضع ( الحدوثة ) في قالب مرآوي ، فوتوغرافي منقول عن الواقع بحرفية تقترب كثيراً من أسلوب المقالة.
لكن خاصية النقل أو التصوير الفوتوغرافي المرآوي الذي اتسمت به المجموعة أفادت في نقل جزء من التركيبة الاجتماعية للإمارات أبان عصر اللؤلؤ ، نقلاً يدخل ضمن التوثيق الفلولكلوري لهذه التركيبة، دون أن يغوص الكاتب إلي أعماقها ، محللاً أو موظفاً المأثور الشعبي لخدمة البناء الدرامي للقصص ، لذا يمكن الاكتفاء في التعامل مع هذه المجموعة بالبحث عن المأثورات الشعبية الواردة في السياق وهي كثيرة على أي حال وقد تنبهت مقدمة المجموعة التي كتبها وكيل وزارة الإعلام إلي هذا فأشارت إلي أن هذه القصص ( ليست إنجازاً ولكنها محاولة ) ، كما أكد الكاتب نفسه توجهه هذا بالإهداء الذي جعله ( إلي كل جيل يتوق لمعرفة ماضي أجداده المؤلم الشجي وغلي كل من عاش الماضي وقاساه وإلي أولئك البائسين والمنكوبين بذلك الدهر )..
يتردد صدي حياة البحر في كل قصص المجموعة تقريباً ، فقصته الأولي ( دموع من الماضي ) تسرد وبشيء من التقريرية حواراً بين شاب وشيخ ، موضوعه تجربة الشيخ في البحر ، ومع أنّ الحوار لا يحمل في مضمونه رمزاً معيناً إلا انه يقدم للقارئ ( معلومات ) ذات طابع تراثي ... وتاريخ ( الحدوثة ) يعود إلي ثلاثين سنة – كما يرد على لسان الشيخ – عندما كان الشيخ ( سيباً ) على متن سفينة ضخمة – ويعرّف لنا القاص معني السيب ، عندما يقول على لسان الشيخ ( كنت سيباً في سفينة غوص أمسك الحبل الذي ربط طرفه برجل صديقي حمد الغائص ليعانق بصدره كل الأخطار ليحصل على المحار)... ويصف لنا القاص معاناة ( الغيص ) فيقول ( وتتشقق أصابعه وهو في أرض الأعماق ، يخترق تلك النباتات البحرية التي كأنها عفاريت واقفة) ثم نعرف من السياق أنّ رجل صاحبه حمد علقت بين الصخور وعرفنا أيضاً أن لهذه الصخور اسم خاص يعرفه العاملون في الغوص وهو (الحجارة الماسكة) وهذه تفتك بالغواصين لأنها ( تمسكهم حتى تثقب قراب أنفاسهم تحت الماء فيهلكون )... ويتابع القاص سرد هذه الواقعة التي كانت تشكل خطراً يومياً على الغوّاصين ، فنعرف أن ( السيب ) يسارع إلي إنقاذ (الغيص ) بمجرد أن يتلقي إشارات معينة بالحبل يتعارف عليها ... ونهاية القصة معروفة ، حيث يغوص السيب لإنقاذ زميله ولكنه يصاب بجرح في قدمه وسرعان ما تجذب الدماء الحمراء (جرجوراً ) إلي الموقع ، فيهاجم الجرجور القدم المجروحة ويقطعها ، لكن بطل القصة ينجح في الصعود إلي ظهر السفينة ، ثم نعلم أن حزن صاحبنا يعود إلي أن صاحبه قدمات في عملية أخري ، ويصف لنا القاصي بالتفصيل هذه العملية ، منبهاً إلي أن السفن كثيراً ما كانت تغرق وتموت بسبب الدوامات البحرية، باستثناء تلك التي يقودها (نوخذة) علي دراية وحيلة وممارسة وتجربة.
تتميز القصة القصيرة الحديثة دائماً بالضربة الموباسانية الأخيرة ، كما يشترط فيها التكثيف والإيجاز وهذا مما لا نجده في هذه القصة لأنها في الإطار الفني الموضوعة فيه لا تهدف إلي أكثر من تعريف القارئ بجانب من حياة ( الغيص ) إبان ازدهار مهنة البحث عن اللؤلؤ ، وهذا الهدف نراه مجسداً في مواقع أخري من المجموعة حيث يصف لنا القاصي عملية الغوص مع مسمياتها (الفولكلورية) وأهمية كل عنصر فيها مثل ( الغيص ) و (السيب) و ( النوخذة ) وغيرهم ولكنه لا يلجأ إلي توظيف العلاقة الاجتماعية التي كانت تربط بين هؤلاء لإضاءة جانب أعمق من حياة الناس آنذاك، ومن ثم لا يحتمل القاصي هذه (الحواديت) إسقاطاً معاصراً ...
وإذا كنا قد رأينا وقفات مطولة في ( شاهندة ) لراشد عبد الله عند ( النخاسة ) التي كانت تسود آنذاك ، فنحن لا نعدم أن نجد إشارة إليها أيضاً في قصة ( البحث عن السراب ) وهي القصة الثانية في مجموعة السجواني ، والسراب هنا ليس إلا حدثاً يسرقه قطاع الطرق ليبيعوه في أسواق العبيد ، أما الباحثة فهي الأم التي تسرد قصتها بالتفصيل الممل .
في قصته الثالثة ( وقدم الخير ) يعرفنا القاص بمهنة غريبة عرفها الناس أبان عصر اللؤلؤ وأصبحت جزءاً من الموروث الشعبي ، تلك هي مهنة ( صيد الجراد )وتحميصه أو قليه ، ويقدم القاص لقصته بتوطئة تفيد أن بطله يلجأ إلي صيد الجراد لأنه لم يتمكن من ركوب البحر الهائج ، ويصف لنا القاص عملية صيد الجراد بشعفة ( يضرب بها الجرادة فتقع مغشية عليها ) أو ( يمسك القماش والعصا يصطاد الجراد بالقماش وهو في أماكن تجمعه ) ثم تبدأ عملية قلي الجراد بالزيت والملح والفلفل بعد أن تقتطع أرجله الشوكية وأجنحته الشفافة (فبدا لحماً خالصاً) ... وينهي القاص ( حدوته) بتزويج بائع الجرائد من فتاة سمراء كانت قد اشترت منه ثم يقول : ( فيالها من نعمة طالما ملأت بطونا وأشبعت جياعا وفرجت عن كرب أنها نعمة من السماء).
لقد كانت مهنة ركوب البحر هي عماد حياة الناس فيما سمي بعصر اللؤلؤ، ويمكن القول إن جميع المهن الأخرى في الداخل ارتبطت بحياة البحر ، بشكل أو بآخر ، سواء صيد السمك أو صناعة المراكب الخشبية أو الحدادة أو السقاية وحتى مهنة ( الحواية) أو الصيدلة ، كانت تتأثر كثيراً بحياة البحر ، فإلي جانب استخلاص شحوم الأسماك وزيوتها لطلي المراكب الخشبية وتشحيمها كانت هناك عقاقير خاصة بعلاج الأمراض التي يصاب بها ( الغاصة )، مثل (الأسمطة) أو تشقق الجلد .. وها نحن نري هنا كيف أن صيد الجراد مثلاً كان تيم على هامش ركوب البحر وفي الأوقات التي يصعب فيها الغوص على اللؤلؤ.
كانت لمهنة ركوب البحر عاداتها وتقاليدها وقيمها آدابها ، وقد أشرت إلي ذلك في معرض حديثي عن رواية ( شاهندة ) لراشد عبد الله حيث نقلت تصويره الحي لعقاب البحار الذي يكسر هذه الآداب في عرض البحر فيحاول أن يشرب اكثر مما هو مخصص له ... وكان عقابه الموت ... أما في قصة (شريعة البحر ) للسجواني فهناك وصف لعقاب البحار
والكور (الكوار) قد احتضن بريق الشاي الفضي بتساؤلات غاضبة حول ما أشيع من أن النوخذة طلي ( الدعن ) .. وتبدأ القصة بتساؤلات غاضبة حول ما أشيع من أن النوخذة (قحطان) قد أمر برمي أمهر بحارة الحي في البحر ونعرف في النهاية أنه فعل ذلك رغماً عنه ولتجنيب الآخرين الإصابة بالعدوى.
من قيم البحر التمسك بالسفينة التي يمتلكها الإنسان والتي تعادل الأرض بالنسبة للمزارع ، وقصة ( الجزاء العادل ) تهدف إلي تصوير الخزي والعار الذي لحق بالأب الذي باع سفينته وأنفق الأموال في الهند أما في قصة (وأضاءت الشموع) فنتعرف علي حالة أب كهل سافر أبنه منذ سنوات طويلة في البحر ولم يعد إلا في نهاية القصة وعن طريق مصادفة لا يمكن أن تقع إلا في قصص السجواني، حيث يلتقي بطل القصة برجل كهربائي ، فيستضيفه ويحدثه عن سفر ابنه منذ سنوات طويلة ، وقبل أن ينهي قصته يسمع طرقاً علي الباب ونكتشف أن الابن لم يختر وقتاً آخر للعودة إلا في نهاية الحكاية التي يسردها الأب للضيف ، وعلى الرغم من سذاجة البناء الفني للقصة إلا أنها تصور جانباً من حياة الأسفار آنذاك، بحثاً عن لقمة العيش ، بخاصة عندما كسدت أسواق اللؤلؤ.
حكايات البحر كثيرة ، في هذه المجموعة ، وهي ترد دائماً في إطار المصادفة أو الشرح، كما هو الحال في قصته ( الأمل المحترق ) التي تصور معاناة امرأة هاجم الجرجور زوجها وقطع رجله ، أما قصة ( زائر من السماء ) فيمكن اعتبارها مقالة في صيد الحيتان واستخراج العنبر من داخلها ثم الدخول في جوف الحوت بحثاً عن العنبر فضلاً عن استخدامات أخري له يوردها القاص على النحو التالي: ( أن الحوت ضخم سمين شحين\م ، انهم ليستخدمون كل الوسائل من أجل تقطيعه للحصول علي شحمه الذي يستخدمونه كطلاء لسفنهم بعد أن يمر بمراحل عديدة من المعالجة).
في المجموعة إشارات أخري تتفاوت طولاً لعادات وتقاليد عرفها مجتمع الغوص علي اللؤلؤ مثل ( السقاية )، حيث عرفت هذه المهنة في المنطقة على نطاق واسع واحترفها كثيرون ، كانت مهمتهم نقل المياه العذبة وبيعها ، وقد وردت الإشارة إلي هذه الحرفة في قصة ( ظمأ ولفح ) في إطار وصف معاناة قرية ظامئة تسعي لإيجاد الماء لدي سقاء بقيت لديه بعض البراميل المحجوزة للمحظوظين .. وفي قصته ( رماد قلب ) وصف مطول لمهنة المطاوعة ( الكتاب ) والتقاليد المرتبطة بالمطوع ، واشتهاره بالقسوة والغلظة واستخداماته للفلقة وتكررت الإشارة إلي المطوع ، واشتهاره في قصته ( آهات الاضطهاد) التي تدور كلها حول قسوة المطوع علي طفل عصي أمره .. ولا تعدم في المجموعة إشارات إلي عادة الزواج من رجل كهل ، أو عادة بناء المنازل ذات الأبراج ( البادجير ) التي كانت بمثابة مكيفات طبيعية للهواء . أنظر قصة غفوة الطمأنينة) ثم عادة بناء الخيام من سعف النخيل ، وعادات صب القهوة وشربها من ( الدالة ) علي مقربة من ( الكوار) وحتى أوصاف الحلي النسائية الشعبية مثل ( الزري ) تجد لها ذكراً في المجموعة ( أنظر قصة الأمل المحترق ) – والزري خيوط لماعة بلون الفضة والذهب تزين بها النساء ثيابهن وسراويلهن.
أطرف ما في المجموعة القصصية لعبد الرضا السجواني فصل الحكايات الشعبية التي أوردها في قصتين الأولي بعنوان ( من الزمان البعيد ) وتتضمن ثلاث حكايات شعبية عن الجن والثانية بعنوان ( البئر المسكونة )، ومن الواضح أن القاصي لا يورد حكاياته الشعبية ضمن سياق فني وإنما يسردها كما سمعها ليس إلا ، بحيث نستطيع إخراج هذه الحكايات من المجموعة وإدراجها ضمن بحث خاص توثق فيه مسموعاتنا عن الحكايات الشعبية المتداولة باعتبارها من المأثور الشعبي الشفاهي .. ، وحكايات الجان كثيرة ، ومعروفة في آدابنا العربية وقد أفرد الجاحظ في كتبه حكايات كثيرة عنهم وجعل لهم في كتابه (الحيوان) مراتب حين ذكر أن الأعراب ( تجعل الخوافي والمستجنات من قبل أن ترتب المراتب جنسين يقولون جن وحن بالجيم والحاء كما يتطرق الجاحظ في كتابه المذكور إلي مسألة تزاوج الجن والإنس ويورد عن ذلك حكايات شعبية كثيرة).
قصص الجن كانت تحكي للأطفال كما يذكر السجواني من أجل تسليتهم ومساعدتهم على النوم، وقد أورد القاصي قصة الجني المقيد بالسلاسل الذي يجول في المغرب حتى الفجر بأزقة الحي لتخويف الأهالي ، كما أورد – علي لسان الجدة - قصة أو حكاية امرأة جنية ذات شكل آدمي تفوح منها رائحة العطر الذكية التي تجذب الشبان إليها لتغريهم بالزواج ثم تقتلهم .. والحكاية الثالثة عن الجني الضخم الذي يعيش في أعماق البحار ويتصدي للغواصين ، أما (البئر المسكونة ) فنموذج متكرر من الحكايات الشعبية التي تنسج خيالاً حول واقعة حقيقية اتسمت بالغرابة.
إن قارئ المجموعة القصصية ( ذلك الزمان) لا يستطيع أن يخرج تقنياً وفنياً بأي إنجاز ، ولا يستطيع أيضاً أن يضع المجموعة في موقع متقدم من مسيرة القصة القصيرة في الإمارات، ولكنه سيسعد بالتعرف علي عدد من المأثورات الشعبية السائدة ، أوردها الكاتب في إطار مقالات ذات طابع قصصي ، فلا هو وفق في إنضاد مقالة عن هذه المأثورات ولا هو ينجح في جعلها عناصر لبناء قصصي وكان من المحتم وهذه الحالة أن ترد هذه المأثورات عفو الخاطر، دون أن توظف فنياً كما يجب.
قصص عبد الحميد أحمد
النموذج الحي والمتطور لعملية توظيف المأثور الشعبي في القصة القصيرة في الإمارات يتمثل حتى الآن في ثلاث مجموعات قصصية هي ( السباحة في عيني خليج يتوحش)و (الفرصة الأخيرة ) ثم ( حب من نوع آخر ) ، فهنا الموروث الشعبي لا يرد عفو الخاطر وإنما في سياق بناء قصصي ، درامي ، ناضج ، تنفد معه الإشارات التراثية إلي الأعماق ، وترقي إلي مستوي الرمز في أحيان كثيرة.
في المجموعة الأولي ( السباحة في عيني خليج يتوحش) لعبد الحميد أحمد إشارات كثيرة لحياة البحر وصراعات البحارة مع النواخذة وهموم صيادي السمك فضلاً عن الإحساس المفرط بأن البحر هو مصدر الخطر ، كما تكثر في القصص الألفاظ الفولكلورية كل ( العقال) و(الفترة) مع نموذج من الشعر الخليجي يورده في السياق ووصف للباس المرأة، لا بل أنك تجد أكثر من عشرة هوامش تتضمن شروحات لعادات أو تقاليد أو ألفاظ فولكلورية من صميم البيئة الشعبية في الإمارات ولنتوقف عند كل هذا بالتفصيل.
القصة الأولي في المجموعة بعنوان ( قالت النخلة للبحر ) وأقانيمها ثلاثة، البحر والنخلة والإنسان، ومن خلال هذا الثالوت يسقط القاص على أرضية قصته معادلة الماضي والحاضر والمستقبل ، بما يعني أن استدعاء الموروث الشعبي والمظاهر الطبيعية المرتبطة به مثل البحر إنما يتم في إطار معالجة الواقع أو الحاضر ضمن رؤى مستقبلية قد تغيب في بعض القصص وقد ترد أن يحسن القاص توظيفها لكنك تشعر بها علي أي حال.
البحر في هذه القصة ، وما يليها من قصص كائن حي ، فيه نوازع الخير والشر وهو مصدر الحياة لسكان المنطقة ، لذا كان لابد أن ترد حياة البحر في الديالوج الذي نجده بين البحر والنخلة ، ومن القصة نعرف أن صراعاً ما كان يقوم بين البحارة والنواخذة الذي ( حرق صدر وظهر البحار خلفان لأنه خبأ في العام الماضي لؤلؤة ) ومن القصة نشعر أن استدعاء عصر الغوص على اللؤلؤ في القصة يرمي إلي إبراز هذا الصراع فيما يشبه جانباً من جوانب المشكلة الاجتماعية آنذاك حتى يمكننا القول أن مجتمع البحر عرف شيئاً من الصراع الطبقي الذي نجده في المجتمع الرأسمالي ، وكان النواخذة دائماً يمثل الجانب المستغل ( بكسر الغين) ، فضلاً عن السلطة ، لذا كانت ترتبط معظم المآسي الاجتماعية آنذاك بهذا المتسلط المستغل الذي ( طلب من سالم أن يغوص مرة بينما كان مريضاً لا علاج له وسط البحر والحريق ولكنه أصر فغاص ليبقي تحت الماء طويلاً ولما أخرجوه وجدوه نصف جسد فعاد النواخذ ورماه إلي الماء والسمك مرة أخري رغم توسلات رفقائه).
التعاطف الحي للبحر مع الإنسان – رغم أنه مكمن الخطر دائماً – نلمسه بوضوح في كتابات عبد الحميد أحمد ، الذي يوظف كل عناصر البيئة ليدين حقبة كان يمثلها النواخذ ، لذا جسد البحر في صورة إنسان ، وجعله ارحم على سالم من النواخذة نفسه ، حيث يكون البحر شاهداً علي جريمة النواخذة عندما يقول : ( إني أذكر ذلك ، رموه إليّ ، وقد وجدته بلا ساقين ولا عينين فاحتضنته في القاع حتى ذاب في الماء والرمل ولو كنت أعلم أن هناك من ينتظره لكنت قذفت به إلي الشاطئ ).
حياة التسلط هذه صبغت مجتمع الغوص على اللؤلؤ وأعادت تشكيلة المجتمع حيث خضعت معظم المتغيرات الاجتماعية لها، فسلمي تزوجت من النواخذة في إطار صفقة بين أبيها وبينه ، بعد أن عجز عن تسديد الديون ، ومن خلال هذا النسيج بين الماضي والطبيعة ، يرسم القاص ملامح الحاضر على لسان شاب ( يعمل موظفاً براتب أسكن وحيداً في منطقة تعبح بالصخب والضجيج... ... الخ ).
هذا هو الإطار العام للرواية ، وهذا هو أسلوب راشد عبد الله في سرد جانب من الموروث الشعبي المتعلق بحياة البحر ، ونحن لا نعوم في الرواية صوراً من قسوة الحياة آنذاك ، يصعب أحياناً تصديقها ، لكن قانون البحر كان فوق الجميع وتجاوز قيمه وعاداته وتقاليد وأعرافه جريمة كان يعاقب عليها أحياناً بالقتل ؛ وقد سرد المؤلف واحدة من القصص المقحمة على البناء الروائي ؛ لكن المعبرة في ذاتها ، لو تم تناولها كجزئية أو كوثيقة من وثائق الحياة الاجتماعية آنذاك.
يقول راشد عبد الله : "قلّ الماء من السفينة وأمر النوخذة بتقسيم ما يقي من ماء وكان نصيب كل فرد في اليوم الواحد فنجاناً فقط بينما هو كان يشرب من الماء دون حساب ولم يتقيد وكنا نبلل التمر بماء البحر قبل أن يوزع علينا وتسلل السبيل الموجود بالسفينة ذات يوم وتحت وطأة الجوع والعطش سرق بعض التمر وشرب بعض الماء وقبض على الرجل متلبساً بهذه الجريمة فإذا حدث أيها السادة ؛ جاءوا بالرجل فوق السفينة وأمر بربطه في الساري وجمع الرجال ليشهدوا هذا المشهد اللعين ثم أمر بجلده ثم أمر بكيه بالنار ثم أمر النوخذة بربط بعض الحجارة في رجليه والقوة بعدها في البحر"(8)
هــــــــوامش
(1) رواية شاهندة / ص3 .
(2) انظر صفحة 8 وما بعدها في الرواية.
(3) ص27 – الرواية .
(4) ص29 – الرواية.
(5) ص31 – الرواية .
(6) ص52 – الرواية .
(7) ص 47 – الرواية.
(8) ص34 – الرواية.
ذلك الزمان لعبد الرضا السجواني
تعتبر المجموعة القصصية ( ذلك الزمان ) لعبد الرضا السجواني – وهي من إصدارات الإدارة الثقافية في وزارة الإعلام والثقافة من أكثر الأعمال القصصية المحلية تواضعاً من حيث التكنيك القصصي والنضج الفني لكنها – بالمقابل – من أغناها على صعيد التأثر بالموروث الشعبي ( الفولكلور ) ، ولعل اضطراب التكنيك القصصي أثر على لغة المجموعة فجاءت عفو الخاطر ينتابها ضعف في التركيب اللغوي والنحوي، برز كأوضح ما يكون بلجوء الكاتب إلي أسلوب السرد الإنشائي الذي يضع ( الحدوثة ) في قالب مرآوي ، فوتوغرافي منقول عن الواقع بحرفية تقترب كثيراً من أسلوب المقالة.
لكن خاصية النقل أو التصوير الفوتوغرافي المرآوي الذي اتسمت به المجموعة أفادت في نقل جزء من التركيبة الاجتماعية للإمارات أبان عصر اللؤلؤ ، نقلاً يدخل ضمن التوثيق الفلولكلوري لهذه التركيبة، دون أن يغوص الكاتب إلي أعماقها ، محللاً أو موظفاً المأثور الشعبي لخدمة البناء الدرامي للقصص ، لذا يمكن الاكتفاء في التعامل مع هذه المجموعة بالبحث عن المأثورات الشعبية الواردة في السياق وهي كثيرة على أي حال وقد تنبهت مقدمة المجموعة التي كتبها وكيل وزارة الإعلام إلي هذا فأشارت إلي أن هذه القصص ( ليست إنجازاً ولكنها محاولة ) ، كما أكد الكاتب نفسه توجهه هذا بالإهداء الذي جعله ( إلي كل جيل يتوق لمعرفة ماضي أجداده المؤلم الشجي وغلي كل من عاش الماضي وقاساه وإلي أولئك البائسين والمنكوبين بذلك الدهر )..
يتردد صدي حياة البحر في كل قصص المجموعة تقريباً ، فقصته الأولي ( دموع من الماضي ) تسرد وبشيء من التقريرية حواراً بين شاب وشيخ ، موضوعه تجربة الشيخ في البحر ، ومع أنّ الحوار لا يحمل في مضمونه رمزاً معيناً إلا انه يقدم للقارئ ( معلومات ) ذات طابع تراثي ... وتاريخ ( الحدوثة ) يعود إلي ثلاثين سنة – كما يرد على لسان الشيخ – عندما كان الشيخ ( سيباً ) على متن سفينة ضخمة – ويعرّف لنا القاص معني السيب ، عندما يقول على لسان الشيخ ( كنت سيباً في سفينة غوص أمسك الحبل الذي ربط طرفه برجل صديقي حمد الغائص ليعانق بصدره كل الأخطار ليحصل على المحار)... ويصف لنا القاص معاناة ( الغيص ) فيقول ( وتتشقق أصابعه وهو في أرض الأعماق ، يخترق تلك النباتات البحرية التي كأنها عفاريت واقفة) ثم نعرف من السياق أنّ رجل صاحبه حمد علقت بين الصخور وعرفنا أيضاً أن لهذه الصخور اسم خاص يعرفه العاملون في الغوص وهو (الحجارة الماسكة) وهذه تفتك بالغواصين لأنها ( تمسكهم حتى تثقب قراب أنفاسهم تحت الماء فيهلكون )... ويتابع القاص سرد هذه الواقعة التي كانت تشكل خطراً يومياً على الغوّاصين ، فنعرف أن ( السيب ) يسارع إلي إنقاذ (الغيص ) بمجرد أن يتلقي إشارات معينة بالحبل يتعارف عليها ... ونهاية القصة معروفة ، حيث يغوص السيب لإنقاذ زميله ولكنه يصاب بجرح في قدمه وسرعان ما تجذب الدماء الحمراء (جرجوراً ) إلي الموقع ، فيهاجم الجرجور القدم المجروحة ويقطعها ، لكن بطل القصة ينجح في الصعود إلي ظهر السفينة ، ثم نعلم أن حزن صاحبنا يعود إلي أن صاحبه قدمات في عملية أخري ، ويصف لنا القاصي بالتفصيل هذه العملية ، منبهاً إلي أن السفن كثيراً ما كانت تغرق وتموت بسبب الدوامات البحرية، باستثناء تلك التي يقودها (نوخذة) علي دراية وحيلة وممارسة وتجربة.
تتميز القصة القصيرة الحديثة دائماً بالضربة الموباسانية الأخيرة ، كما يشترط فيها التكثيف والإيجاز وهذا مما لا نجده في هذه القصة لأنها في الإطار الفني الموضوعة فيه لا تهدف إلي أكثر من تعريف القارئ بجانب من حياة ( الغيص ) إبان ازدهار مهنة البحث عن اللؤلؤ ، وهذا الهدف نراه مجسداً في مواقع أخري من المجموعة حيث يصف لنا القاصي عملية الغوص مع مسمياتها (الفولكلورية) وأهمية كل عنصر فيها مثل ( الغيص ) و (السيب) و ( النوخذة ) وغيرهم ولكنه لا يلجأ إلي توظيف العلاقة الاجتماعية التي كانت تربط بين هؤلاء لإضاءة جانب أعمق من حياة الناس آنذاك، ومن ثم لا يحتمل القاصي هذه (الحواديت) إسقاطاً معاصراً ...
وإذا كنا قد رأينا وقفات مطولة في ( شاهندة ) لراشد عبد الله عند ( النخاسة ) التي كانت تسود آنذاك ، فنحن لا نعدم أن نجد إشارة إليها أيضاً في قصة ( البحث عن السراب ) وهي القصة الثانية في مجموعة السجواني ، والسراب هنا ليس إلا حدثاً يسرقه قطاع الطرق ليبيعوه في أسواق العبيد ، أما الباحثة فهي الأم التي تسرد قصتها بالتفصيل الممل .
في قصته الثالثة ( وقدم الخير ) يعرفنا القاص بمهنة غريبة عرفها الناس أبان عصر اللؤلؤ وأصبحت جزءاً من الموروث الشعبي ، تلك هي مهنة ( صيد الجراد )وتحميصه أو قليه ، ويقدم القاص لقصته بتوطئة تفيد أن بطله يلجأ إلي صيد الجراد لأنه لم يتمكن من ركوب البحر الهائج ، ويصف لنا القاص عملية صيد الجراد بشعفة ( يضرب بها الجرادة فتقع مغشية عليها ) أو ( يمسك القماش والعصا يصطاد الجراد بالقماش وهو في أماكن تجمعه ) ثم تبدأ عملية قلي الجراد بالزيت والملح والفلفل بعد أن تقتطع أرجله الشوكية وأجنحته الشفافة (فبدا لحماً خالصاً) ... وينهي القاص ( حدوته) بتزويج بائع الجرائد من فتاة سمراء كانت قد اشترت منه ثم يقول : ( فيالها من نعمة طالما ملأت بطونا وأشبعت جياعا وفرجت عن كرب أنها نعمة من السماء).
لقد كانت مهنة ركوب البحر هي عماد حياة الناس فيما سمي بعصر اللؤلؤ، ويمكن القول إن جميع المهن الأخرى في الداخل ارتبطت بحياة البحر ، بشكل أو بآخر ، سواء صيد السمك أو صناعة المراكب الخشبية أو الحدادة أو السقاية وحتى مهنة ( الحواية) أو الصيدلة ، كانت تتأثر كثيراً بحياة البحر ، فإلي جانب استخلاص شحوم الأسماك وزيوتها لطلي المراكب الخشبية وتشحيمها كانت هناك عقاقير خاصة بعلاج الأمراض التي يصاب بها ( الغاصة )، مثل (الأسمطة) أو تشقق الجلد .. وها نحن نري هنا كيف أن صيد الجراد مثلاً كان تيم على هامش ركوب البحر وفي الأوقات التي يصعب فيها الغوص على اللؤلؤ.
كانت لمهنة ركوب البحر عاداتها وتقاليدها وقيمها آدابها ، وقد أشرت إلي ذلك في معرض حديثي عن رواية ( شاهندة ) لراشد عبد الله حيث نقلت تصويره الحي لعقاب البحار الذي يكسر هذه الآداب في عرض البحر فيحاول أن يشرب اكثر مما هو مخصص له ... وكان عقابه الموت ... أما في قصة (شريعة البحر ) للسجواني فهناك وصف لعقاب البحار
والكور (الكوار) قد احتضن بريق الشاي الفضي بتساؤلات غاضبة حول ما أشيع من أن النوخذة طلي ( الدعن ) .. وتبدأ القصة بتساؤلات غاضبة حول ما أشيع من أن النوخذة (قحطان) قد أمر برمي أمهر بحارة الحي في البحر ونعرف في النهاية أنه فعل ذلك رغماً عنه ولتجنيب الآخرين الإصابة بالعدوى.
من قيم البحر التمسك بالسفينة التي يمتلكها الإنسان والتي تعادل الأرض بالنسبة للمزارع ، وقصة ( الجزاء العادل ) تهدف إلي تصوير الخزي والعار الذي لحق بالأب الذي باع سفينته وأنفق الأموال في الهند أما في قصة (وأضاءت الشموع) فنتعرف علي حالة أب كهل سافر أبنه منذ سنوات طويلة في البحر ولم يعد إلا في نهاية القصة وعن طريق مصادفة لا يمكن أن تقع إلا في قصص السجواني، حيث يلتقي بطل القصة برجل كهربائي ، فيستضيفه ويحدثه عن سفر ابنه منذ سنوات طويلة ، وقبل أن ينهي قصته يسمع طرقاً علي الباب ونكتشف أن الابن لم يختر وقتاً آخر للعودة إلا في نهاية الحكاية التي يسردها الأب للضيف ، وعلى الرغم من سذاجة البناء الفني للقصة إلا أنها تصور جانباً من حياة الأسفار آنذاك، بحثاً عن لقمة العيش ، بخاصة عندما كسدت أسواق اللؤلؤ.
حكايات البحر كثيرة ، في هذه المجموعة ، وهي ترد دائماً في إطار المصادفة أو الشرح، كما هو الحال في قصته ( الأمل المحترق ) التي تصور معاناة امرأة هاجم الجرجور زوجها وقطع رجله ، أما قصة ( زائر من السماء ) فيمكن اعتبارها مقالة في صيد الحيتان واستخراج العنبر من داخلها ثم الدخول في جوف الحوت بحثاً عن العنبر فضلاً عن استخدامات أخري له يوردها القاص على النحو التالي: ( أن الحوت ضخم سمين شحين\م ، انهم ليستخدمون كل الوسائل من أجل تقطيعه للحصول علي شحمه الذي يستخدمونه كطلاء لسفنهم بعد أن يمر بمراحل عديدة من المعالجة).
في المجموعة إشارات أخري تتفاوت طولاً لعادات وتقاليد عرفها مجتمع الغوص علي اللؤلؤ مثل ( السقاية )، حيث عرفت هذه المهنة في المنطقة على نطاق واسع واحترفها كثيرون ، كانت مهمتهم نقل المياه العذبة وبيعها ، وقد وردت الإشارة إلي هذه الحرفة في قصة ( ظمأ ولفح ) في إطار وصف معاناة قرية ظامئة تسعي لإيجاد الماء لدي سقاء بقيت لديه بعض البراميل المحجوزة للمحظوظين .. وفي قصته ( رماد قلب ) وصف مطول لمهنة المطاوعة ( الكتاب ) والتقاليد المرتبطة بالمطوع ، واشتهاره بالقسوة والغلظة واستخداماته للفلقة وتكررت الإشارة إلي المطوع ، واشتهاره في قصته ( آهات الاضطهاد) التي تدور كلها حول قسوة المطوع علي طفل عصي أمره .. ولا تعدم في المجموعة إشارات إلي عادة الزواج من رجل كهل ، أو عادة بناء المنازل ذات الأبراج ( البادجير ) التي كانت بمثابة مكيفات طبيعية للهواء . أنظر قصة غفوة الطمأنينة) ثم عادة بناء الخيام من سعف النخيل ، وعادات صب القهوة وشربها من ( الدالة ) علي مقربة من ( الكوار) وحتى أوصاف الحلي النسائية الشعبية مثل ( الزري ) تجد لها ذكراً في المجموعة ( أنظر قصة الأمل المحترق ) – والزري خيوط لماعة بلون الفضة والذهب تزين بها النساء ثيابهن وسراويلهن.
أطرف ما في المجموعة القصصية لعبد الرضا السجواني فصل الحكايات الشعبية التي أوردها في قصتين الأولي بعنوان ( من الزمان البعيد ) وتتضمن ثلاث حكايات شعبية عن الجن والثانية بعنوان ( البئر المسكونة )، ومن الواضح أن القاصي لا يورد حكاياته الشعبية ضمن سياق فني وإنما يسردها كما سمعها ليس إلا ، بحيث نستطيع إخراج هذه الحكايات من المجموعة وإدراجها ضمن بحث خاص توثق فيه مسموعاتنا عن الحكايات الشعبية المتداولة باعتبارها من المأثور الشعبي الشفاهي .. ، وحكايات الجان كثيرة ، ومعروفة في آدابنا العربية وقد أفرد الجاحظ في كتبه حكايات كثيرة عنهم وجعل لهم في كتابه (الحيوان) مراتب حين ذكر أن الأعراب ( تجعل الخوافي والمستجنات من قبل أن ترتب المراتب جنسين يقولون جن وحن بالجيم والحاء كما يتطرق الجاحظ في كتابه المذكور إلي مسألة تزاوج الجن والإنس ويورد عن ذلك حكايات شعبية كثيرة).
قصص الجن كانت تحكي للأطفال كما يذكر السجواني من أجل تسليتهم ومساعدتهم على النوم، وقد أورد القاصي قصة الجني المقيد بالسلاسل الذي يجول في المغرب حتى الفجر بأزقة الحي لتخويف الأهالي ، كما أورد – علي لسان الجدة - قصة أو حكاية امرأة جنية ذات شكل آدمي تفوح منها رائحة العطر الذكية التي تجذب الشبان إليها لتغريهم بالزواج ثم تقتلهم .. والحكاية الثالثة عن الجني الضخم الذي يعيش في أعماق البحار ويتصدي للغواصين ، أما (البئر المسكونة ) فنموذج متكرر من الحكايات الشعبية التي تنسج خيالاً حول واقعة حقيقية اتسمت بالغرابة.
إن قارئ المجموعة القصصية ( ذلك الزمان) لا يستطيع أن يخرج تقنياً وفنياً بأي إنجاز ، ولا يستطيع أيضاً أن يضع المجموعة في موقع متقدم من مسيرة القصة القصيرة في الإمارات، ولكنه سيسعد بالتعرف علي عدد من المأثورات الشعبية السائدة ، أوردها الكاتب في إطار مقالات ذات طابع قصصي ، فلا هو وفق في إنضاد مقالة عن هذه المأثورات ولا هو ينجح في جعلها عناصر لبناء قصصي وكان من المحتم وهذه الحالة أن ترد هذه المأثورات عفو الخاطر، دون أن توظف فنياً كما يجب.
قصص عبد الحميد أحمد
النموذج الحي والمتطور لعملية توظيف المأثور الشعبي في القصة القصيرة في الإمارات يتمثل حتى الآن في ثلاث مجموعات قصصية هي ( السباحة في عيني خليج يتوحش)و (الفرصة الأخيرة ) ثم ( حب من نوع آخر ) ، فهنا الموروث الشعبي لا يرد عفو الخاطر وإنما في سياق بناء قصصي ، درامي ، ناضج ، تنفد معه الإشارات التراثية إلي الأعماق ، وترقي إلي مستوي الرمز في أحيان كثيرة.
في المجموعة الأولي ( السباحة في عيني خليج يتوحش) لعبد الحميد أحمد إشارات كثيرة لحياة البحر وصراعات البحارة مع النواخذة وهموم صيادي السمك فضلاً عن الإحساس المفرط بأن البحر هو مصدر الخطر ، كما تكثر في القصص الألفاظ الفولكلورية كل ( العقال) و(الفترة) مع نموذج من الشعر الخليجي يورده في السياق ووصف للباس المرأة، لا بل أنك تجد أكثر من عشرة هوامش تتضمن شروحات لعادات أو تقاليد أو ألفاظ فولكلورية من صميم البيئة الشعبية في الإمارات ولنتوقف عند كل هذا بالتفصيل.
القصة الأولي في المجموعة بعنوان ( قالت النخلة للبحر ) وأقانيمها ثلاثة، البحر والنخلة والإنسان، ومن خلال هذا الثالوت يسقط القاص على أرضية قصته معادلة الماضي والحاضر والمستقبل ، بما يعني أن استدعاء الموروث الشعبي والمظاهر الطبيعية المرتبطة به مثل البحر إنما يتم في إطار معالجة الواقع أو الحاضر ضمن رؤى مستقبلية قد تغيب في بعض القصص وقد ترد أن يحسن القاص توظيفها لكنك تشعر بها علي أي حال.
البحر في هذه القصة ، وما يليها من قصص كائن حي ، فيه نوازع الخير والشر وهو مصدر الحياة لسكان المنطقة ، لذا كان لابد أن ترد حياة البحر في الديالوج الذي نجده بين البحر والنخلة ، ومن القصة نعرف أن صراعاً ما كان يقوم بين البحارة والنواخذة الذي ( حرق صدر وظهر البحار خلفان لأنه خبأ في العام الماضي لؤلؤة ) ومن القصة نشعر أن استدعاء عصر الغوص على اللؤلؤ في القصة يرمي إلي إبراز هذا الصراع فيما يشبه جانباً من جوانب المشكلة الاجتماعية آنذاك حتى يمكننا القول أن مجتمع البحر عرف شيئاً من الصراع الطبقي الذي نجده في المجتمع الرأسمالي ، وكان النواخذة دائماً يمثل الجانب المستغل ( بكسر الغين) ، فضلاً عن السلطة ، لذا كانت ترتبط معظم المآسي الاجتماعية آنذاك بهذا المتسلط المستغل الذي ( طلب من سالم أن يغوص مرة بينما كان مريضاً لا علاج له وسط البحر والحريق ولكنه أصر فغاص ليبقي تحت الماء طويلاً ولما أخرجوه وجدوه نصف جسد فعاد النواخذ ورماه إلي الماء والسمك مرة أخري رغم توسلات رفقائه).
التعاطف الحي للبحر مع الإنسان – رغم أنه مكمن الخطر دائماً – نلمسه بوضوح في كتابات عبد الحميد أحمد ، الذي يوظف كل عناصر البيئة ليدين حقبة كان يمثلها النواخذ ، لذا جسد البحر في صورة إنسان ، وجعله ارحم على سالم من النواخذة نفسه ، حيث يكون البحر شاهداً علي جريمة النواخذة عندما يقول : ( إني أذكر ذلك ، رموه إليّ ، وقد وجدته بلا ساقين ولا عينين فاحتضنته في القاع حتى ذاب في الماء والرمل ولو كنت أعلم أن هناك من ينتظره لكنت قذفت به إلي الشاطئ ).
حياة التسلط هذه صبغت مجتمع الغوص على اللؤلؤ وأعادت تشكيلة المجتمع حيث خضعت معظم المتغيرات الاجتماعية لها، فسلمي تزوجت من النواخذة في إطار صفقة بين أبيها وبينه ، بعد أن عجز عن تسديد الديون ، ومن خلال هذا النسيج بين الماضي والطبيعة ، يرسم القاص ملامح الحاضر على لسان شاب ( يعمل موظفاً براتب أسكن وحيداً في منطقة تعبح بالصخب والضجيج... ... الخ ).
في
قصة ( عطس النخيل ) التي تدور حول سائق أجنبي يدهس طفلة صغيرة ، تصوير آخر
لجانب المعاناة ، مقرون بإلماعات ثورية لم توظف بشكل مقنع إذ لن يتعاطف
القارئ مع محاولة قتل السائق على هذا النحو لكن القصة غنية بالإشارات
الفولكلورية .... العقال ، الفترة ، السفر والغوص ( وما بينهما من عناء
وحنين ) ثم التوظيف الحي لبيت شعري خليجي ( دور لجرحك دوا ما من دوا ببلاش)
والمرأة التي ( في ثياب سوداء تحاول أن تحتفظ بعباءتها فوق رأسها) .
ديالوج ومونولوج يتابعهما القارئ بين عهدين ، صيد السمك وعصر البترول مع تصوير حي لسوق السمك ، والسماكين ، والباعة المتجولين ، والحنين لأيام خلت ، كان فيها رشدان بائعاً للسمك ثم أصبح ( ناطوراً ) ، ومن خلال هذا الديالوج والمونولوج تلمس إشارات كثيرة فيها إدانة للحاضر.
في قصته ( السباحة في عيني خليج يتوحش ) إعادة لطرح موضوع البحر ، مصدر الحياة والموت ، كانوا بالأمس يذهبون إلي البحر فتغيبهم أمواجه ، وهم اليوم لا يذهبون إليه بل يأتي هو إليهم – فتغيبهم أمواجه أيضاًَ ... ومع ذلك فالبحر برئ، والعلاقة الجدلية بين الإنسان والبحر تظل الهامش الذي يتحرك فيه القاص والهاجس الذي يبني عليه معماره القصصي.
صورة من صور البؤس يوردها القاص في قصته ( منشور ضوئي ) ويرسم ملامح هذه الصورة بعناصر البيئة أيضاً ، الأطفال الذين يلعبون في ظلال ( الصندقة) – ويشرحها في الهامش – ثم بحثهما الدؤوب عن مجلات أو لعب مرمية في ( الصنية ) – ويشرحها أيضاً – ثم كشف لطموحات أحدهما كلمة غير واضحة ( هافا ) – ويشرحها كذلك – ومن خلال إيحاء بالصراع الطبقي – الإشارة إلي العمارات – ينهي القاص الحكاية باستيلاء ابن العمارة علي ( الهاف ) وتساؤل أحد الأطفال عن معني كلمة ( القهر ) التي سمعها ليلاً من أبويه. ( )
في هذه القصة توظيف ناج لعناصر الحارة الشعبية ومفرداتها – المشروحة في الهامش – في سياق إشارات غير مباشرة للصراع الطبقي المحتدم بين سكان العمارات وسكان الصندقة ، ولعلنا نأخذ على القاص هنا تورطه في اختيار الأطفال كرموز لهذا الصراع ، وكان الأولي أن يكونوا – حتى الطفل البدين ابن العمارة – النقيض للصورة التي رسمها للواقع من باب أن الجيل الجديد هو البشارة دائماً .
في قصصه السبع الأخيرة لا يرد المأثور الشعبي أو عناصر البيئة الشعبية في شكل ظاهرة موصوفة ، ولكن يرد المأثور الشعبي في صورة مفردة غالباً ما يشرحها القاص في الهامش ولو لم يفعل ذلك لأغلقت القصص على كثيرين ـ ومنها مثلاً ( الذغة ) – من أحياء دبي القديمة – وهذه يرد ذكرها في قصص محمد المر أيضاً و ( الباتان ) و ( العبرات ) – القوارب المستعملة في دبي لعبور الخور – و( الهاف ) – وهو اللباس الداخلي والغترة والعقال – رمز المحلية – و( العسبج) – نبات صحراوي يخرج سائلاً أبيض ساماً – والزك – وهو البراز – والصندقة – الغرفة الخشبية – والصينية – مكان القمامة والوهيلة – وهي اسم موقعة محلية قديمة وقعت في دبي عام 1938 و ( طوي ميثا ) – بئر في أطراف دبي – والتبانة – ساق المرأة والخرافة ( وهي قفة من سعف النخيل كان يوضع فيها البلح و ( الصافي ) وهو من أصناف السمك.
لقد وظف القاص هذه الألفاظ الشعبية لتلعب دور الرمز وتضفي علي أجواء القصص محلية أرادها أن تتوازي مع تصويره اللاهب لصخب العصر وضجيج الحياة في الإمارات ومن خلال هذا التوازن نجح القاص في معالجة قضايا محلية وإنسانية دون اللجوء إلي المباشرة في وصف البيئة أو الموروث الشعبي ، والذي رأيناه في قصص السجواني ، من هنا أمكن للقاص أن يتجاوز ما عجر السجواني عن تجاوزه، وأعني به الوقوع في محذور كتابة مقالة قصصية وليس قصة ترقي في تكنيكها وتختزل الظاهرة في لمسات ابعد ما تكون عن السرد المباشر ، وهذه احدي سمات القصة الحديثة التي تقترب من جو القصيدة.
ويبقي تساؤل واحد حول السر في تلاشي ذكر البحر والنخيل في القصص الأخيرة من المجموعة ، بينما حولهما نسجت خيوط القصص الأولي وأظن أن هذا التساؤل سيظل قائماً إلي أن نجد الإجابة في عمل جديد وعلي ضوء ذلك يمكن أن يكون الحكم.
قصص محمد المر
تتمثل المحلية بمفهوميها الجغرافي والبشري كأوضح ما يكون في مجموعتين قصصيتين بعنوان (الفرصة الأخيرة ) و ( حب من نوع آخر) لمحمد المر ، وفيهما يحقق القاص أكثر من معادلة تميزه عن باقي كتاب القصة في الإمارات .
• فهو يلجأ إلي تصوير الواقع تصويراً فوتوغرافياً حياً دون أن يقع في مجانية السرد المباشر التي رأيناها في قصص المجموعة ( ذلك الزمان ) ودون أن تتحول القصة بين يديه إلي مقالة وعظية.
• وهو في تصويره للواقع يبتعد عن التجريد الذي رأيناه في بعض قصص المجموعة ( السباحة في عيني خليج يتوحش ) ، ويقدم لك ( المحلية ) بعفوية وصدق ، بعيداً عن التدخل الواعي في مسار الأحداث.
• وهو في محليته الخاصة جداً يرسم الملامح الجغرافية والبشرية لمدينة دبي ، تساعده في ذلك قدرته على التصوير والوصف فضلاً عن معرفته الواسعة بتاريخ المنطقة وإحاطته بعوامل التغير الاجتماعي التي كانت وراء الهجرة والهجرة المضادة من وإلي دبي، وانسجاماً مع متابعة الصورة المحلية التي يرسمها لدبي رأيناه يسعي أثر بعض أهلها ممن يسافرون إلي الخارج ، فيرسم بالدقة نفسها الأماكن التي يزورونها.
• وهو لا يكتفي في تصوير البيئة المحلية علي الذاتي والشخصي جداً ، بل خرج إلي دوائر أوسع ، في إشارات غير مباشرة ذات علاقة بالطبيعة الإنسانية ، ولكنك مع هذا لا تشعر بأنه يرغب في لعب دور الواعظ.
ومع كثرة ما تتضمنه المجموعتان من موروث شعبي إلا إنك تعجز عن رصد هذا الموروث رصدا إحصائيا لأن القصص مجبولة به ، على كل صعيد ، فأنت تجد وصفاً دقيقاً للحارات الشعبية في دبي قد لا تجده في الكتب التي أرّخت للمدينة ( الشندغة ، هور العنز ، ديره ، فريبج الضغانية ، السبخة ... الخ ) ثم تجد وصفاً للزواج وعاداته ووصفاً لبعض الاحتفالات الشعبية مع نماذج من أغاني الأطفال وألعابهم وتجد كذلك وصفاً لطريقة صنع البراجيل وأسماء عديدة لأمراض شعبية مع طرق علاجها وتجد وصفاً للطرق المتبعة في نقل البضائع من البواخر إلي الميناء وهناك ما يشبه الدراسة عن العلاقات الاجتماعية بين كل فريج وآخر ولا تعدم إشارات لهموم العمال العرب مع مرؤوسيهم الإنجليز ، وهناك المالد وأكل الهرب وطريقة نصب الخيم وإشارات لعملية الحجامة ومعالجة الجدري واستخدامات الزنجبيل وعلاج اللدغ بالكي ومهنة الدلالة وأغاني البحارة والعلاج بالأدعية مع وصف حي لرحلة صيد سمك وما يتعرض له الصيادون من مشاكل .
وبكلمة أخري ، أنت حيال موسوعة في تأريخ وتوثيق الموروث الشعبي تكتفي أحياناً بإشارات عابرة وتطنب أحياناً أخري في الشرج والتحليل والوصف دون أن تفقد الحد الأدنى من متطلبات التكنيك القصصي.
في قصته الأولي ( الفرصة الأخيرة ) ... والتي تحمل اسم المجموعة – يعدد القاص أنواع السمك المشهورة في الإمارات دون أن يشعرك بتطفل هذه الفقرة على السياق حيث ترد في موقعها تماماً في إطار وصفه للحياة اليومية الرتيبة التي يعيشها بطل قصته ، والتي تمر يومياً في أسواق اللحم والسمك والخضروات والفواكه في ديره – وهي احدي أهم متعة – فهو – أي بطل القصة حمد – خبير في الأسماك ( يفضل الزريدي والخباط والشعري وكيره الهامور ويمقت بشكل خاص الحلوايوه والبياح وهو يحب الأسماك التي تصاد بشباك القرقور ويشمئز من أسماك الحدق التي تصاد بالصنارة).
في هذه القصة معالجة دقيقة لمشكلة اجتماعية مستشرية وهي زواج الكبار من أجنبيات ، ولكن القاص يقوم المشكلة في إطارها الموضوعي والإنساني فيصف الحياة اليومية الرتيبة التي يعيشها بطل قصته، ثم إحساسه بالوحدة وشعوره بإنسانيته المتجددة مع عروسه الجديدة واختياره أسلوب الانتحار كخاتمة لمشكلة يصعب حلها .. ففي هذا الإطار الحي من المعالجة الدقيقة يتوقف القاص عند ملامح البيئة من حوله ويشخص لك كثيراً من ظواهرها ( السفر إلي الهند مثلاً ) ثم يعرج في وصفه على عادات شعبية طواها النسيان دون أن يقحمها علي السياق بل يعطيها فرصة التسلل بمشروعية إلي البناء الدرامي لتصبح من نسيجه.
( )
مثلاً .. وردت في مجموعته المذكورة إشارات لأمراض شعبية معروفة، مع علاجها ... ففي القصة الأولي يلتقي حمد مع أحد معارفه في الهند ويدور بينهما حوار الذكريات علي النحو التالي :
- لماذا أتيت للهند ؟
- لكي أتفرج.
- ها ، تتفرج ، كل الناس الذين يأتون هنا يتفرجون ولكنهم أيضاً يؤمنون مصالحهم مع الفرجة ، أين تسكن في دبي ؟
- أنا حمد بن سالم من الشذغة.
ينظر إليه وهو يحاول التذكر ثم تتهلل أساريره ويصيح :-
- المريض ؟
- ماذا ؟
- المريض ، المريض! كنت أعمل بحاراً في ( بوم ) خليفة بن سهيل وكنت مع زملائك مسافرين معنا لتعملوا في الكويت أصابك مرض (بوصفار) عشرة أيام ، مررنا بقطر والبحرين وأنت لا تأكل شيئاً وعيناك بلون الكركم هزلت وأصبحت لوحاً ، في الكويت أخذناك إلي أحد صاغة الفضة العمانيين الذي كان يتعاطي الطب الشعبي فكواك وعلي أثر الكي تعافيت).
في قصة ( أيام حارة ) ، يلعب ثلاثة صبية في الخور ويصاب أحدهم بمرض جلدي يرد ذكره في إطار حوار بين الصبية:-
- أنظر إلي ظهر أحمد مثل ظهر التمساح .
ضحك أحمد :
- هذه حبوب ( الحرار ) إذا حككتها احمرت وزادت اله يلعن هذا الحر).
- وفي القصة نفسها إشارة إلي مرض السعال الديكي ( بوحمير ) مع وصف لعلاجه (قال سالم : أخي الصغير مريض بالسعال الديكي ، يقولون أن مرقة سرطان البحر مفيدة له ، لنفتش عن أحدها .... الخ ).
في قصة ( الأب والابن ) – وهي من مجموعة ( حب من نوع آخر ) يرد ذكر ( الحجامة ) علي لسان طفل يصف جانباً من حياة الطفولة ، ومشاهداته في عصر كساد تجارة اللؤلؤ في الأربعينات .. وذكر الحجامة يأتي في إطار وصف الطفل لوالده على النحو التالي: ( في صباح يوم شتائي مشمس في زاوية منعزلة بالقرب من سوق السمك المجفف كان عيسي يراقب والده وهو يحتجم عند أحد الحجامين وكان شكل والده طريفاً وقرن الحجامة مركب علي الجزء المحلوق من رأسه، تذكر إحدى حكايات والدته عن الشيطان ذي القرنين ، والده كان يبدو كشيطان له قرن واحد ، بعد أن نزع القرن ، ظهرت ورمة صغيرة في رأس والده ، أخذ الحجام الموسى وجعل يضرب تلك الورمة ضربات الموروث الشعبى فى الأعمال الأبداعية لكتاب الإمارات صفحات من التراث الشعبى الإماراتى و أثره فى الأعمال الإبداعيه لكتاب الإمارات .
تتمات
فى الحلقة الماضية من هذه الدراسة ــ والتى تحمل الرقم خمسة ــ إختتمت الحديث عن إستخدام الموروث الشعبى المحلى فى الأعمال الإبداعية النثرية التى تشمل القصّة القصيرة والرواية و ضمنت المقالة إستعراضاً لبعض ماورد فى المجموعة القصصية ( الفرصة الأخيرة ) من هذا المأثور , و بقى لزاماً علينا , و كما أشرت التوطئة المنشورة فى الحلقة الأولى أن نتوقف عند الجزء الثانى من موضوع الدراسة وهو الخاص بإستخدام الموروث الشعبى فى الأعمال الشعرية وبعض الخواطر المنشورة هنا وهناك وبذلك تكون الصورة قد إكتملت و أصبحت النتائج طوع اليد .
لكن هذه النقلة إلى الشعر تلزمنى إستكمال ما قطعناه فى الحلقة الماضية تحت وطأة ضيق المساحة والإختصار الذى تتطلبه طبيعة المقال الصحافية , حيث لم نتطرق إلى جميع الأشارات الفلكلورية فى المجموعتين القصصيتين موضوع الدراسة وهما ( الفرصة الأخيرة ) و (حب من نوع آخر ) , و هى كثيرة و متنّوعة ومجبولة بالتكنيك القصصى كما سنرى فى سياق , حيث يرد المأثور الشعبى فى إطار نمو طبيعى و مقنع للأحداث ويتراوح هذا المأثور كما أسلفنا من ذكر العادات و التقاليد إلى وصف الأماكن الشعبية وجعلها محاور مكانية تتواقف مع أزمان القصص , فأنت تجد فى قصص ( الفرصة الأخيرة ) ذكراً لمعظم الحارات الشعبية فى دبى مثل ديرة , فريج الضغانية , السبخة وغيرها لابد أنك تجد وصفاً جغرافياً لخور دبى فى قصّة (من فوق ) " تسلل سالم وجمعة إلى داخل مئذنة الجامع الكبير فى بر دبى من قمة المئذنة أخذا يتفرجان بحبور على المناظر المتعددة التى لفتت أنظراهما , الخور بلونه الأخضر المشوب بالزرقة والعبرات و السفن التى تملؤه حركة و ضجيجاً , شكله من أعلى كثعبان طويل مستلق , ذنبه فى الخليج ورأسه فى الصحراء , بر ديره ببناياته المرتفعة , بر دبى , السوق القديم , قلعة الفهيدى , المقبرة القديمة ألخ . " .
ديالوج ومونولوج يتابعهما القارئ بين عهدين ، صيد السمك وعصر البترول مع تصوير حي لسوق السمك ، والسماكين ، والباعة المتجولين ، والحنين لأيام خلت ، كان فيها رشدان بائعاً للسمك ثم أصبح ( ناطوراً ) ، ومن خلال هذا الديالوج والمونولوج تلمس إشارات كثيرة فيها إدانة للحاضر.
في قصته ( السباحة في عيني خليج يتوحش ) إعادة لطرح موضوع البحر ، مصدر الحياة والموت ، كانوا بالأمس يذهبون إلي البحر فتغيبهم أمواجه ، وهم اليوم لا يذهبون إليه بل يأتي هو إليهم – فتغيبهم أمواجه أيضاًَ ... ومع ذلك فالبحر برئ، والعلاقة الجدلية بين الإنسان والبحر تظل الهامش الذي يتحرك فيه القاص والهاجس الذي يبني عليه معماره القصصي.
صورة من صور البؤس يوردها القاص في قصته ( منشور ضوئي ) ويرسم ملامح هذه الصورة بعناصر البيئة أيضاً ، الأطفال الذين يلعبون في ظلال ( الصندقة) – ويشرحها في الهامش – ثم بحثهما الدؤوب عن مجلات أو لعب مرمية في ( الصنية ) – ويشرحها أيضاً – ثم كشف لطموحات أحدهما كلمة غير واضحة ( هافا ) – ويشرحها كذلك – ومن خلال إيحاء بالصراع الطبقي – الإشارة إلي العمارات – ينهي القاص الحكاية باستيلاء ابن العمارة علي ( الهاف ) وتساؤل أحد الأطفال عن معني كلمة ( القهر ) التي سمعها ليلاً من أبويه. ( )
في هذه القصة توظيف ناج لعناصر الحارة الشعبية ومفرداتها – المشروحة في الهامش – في سياق إشارات غير مباشرة للصراع الطبقي المحتدم بين سكان العمارات وسكان الصندقة ، ولعلنا نأخذ على القاص هنا تورطه في اختيار الأطفال كرموز لهذا الصراع ، وكان الأولي أن يكونوا – حتى الطفل البدين ابن العمارة – النقيض للصورة التي رسمها للواقع من باب أن الجيل الجديد هو البشارة دائماً .
في قصصه السبع الأخيرة لا يرد المأثور الشعبي أو عناصر البيئة الشعبية في شكل ظاهرة موصوفة ، ولكن يرد المأثور الشعبي في صورة مفردة غالباً ما يشرحها القاص في الهامش ولو لم يفعل ذلك لأغلقت القصص على كثيرين ـ ومنها مثلاً ( الذغة ) – من أحياء دبي القديمة – وهذه يرد ذكرها في قصص محمد المر أيضاً و ( الباتان ) و ( العبرات ) – القوارب المستعملة في دبي لعبور الخور – و( الهاف ) – وهو اللباس الداخلي والغترة والعقال – رمز المحلية – و( العسبج) – نبات صحراوي يخرج سائلاً أبيض ساماً – والزك – وهو البراز – والصندقة – الغرفة الخشبية – والصينية – مكان القمامة والوهيلة – وهي اسم موقعة محلية قديمة وقعت في دبي عام 1938 و ( طوي ميثا ) – بئر في أطراف دبي – والتبانة – ساق المرأة والخرافة ( وهي قفة من سعف النخيل كان يوضع فيها البلح و ( الصافي ) وهو من أصناف السمك.
لقد وظف القاص هذه الألفاظ الشعبية لتلعب دور الرمز وتضفي علي أجواء القصص محلية أرادها أن تتوازي مع تصويره اللاهب لصخب العصر وضجيج الحياة في الإمارات ومن خلال هذا التوازن نجح القاص في معالجة قضايا محلية وإنسانية دون اللجوء إلي المباشرة في وصف البيئة أو الموروث الشعبي ، والذي رأيناه في قصص السجواني ، من هنا أمكن للقاص أن يتجاوز ما عجر السجواني عن تجاوزه، وأعني به الوقوع في محذور كتابة مقالة قصصية وليس قصة ترقي في تكنيكها وتختزل الظاهرة في لمسات ابعد ما تكون عن السرد المباشر ، وهذه احدي سمات القصة الحديثة التي تقترب من جو القصيدة.
ويبقي تساؤل واحد حول السر في تلاشي ذكر البحر والنخيل في القصص الأخيرة من المجموعة ، بينما حولهما نسجت خيوط القصص الأولي وأظن أن هذا التساؤل سيظل قائماً إلي أن نجد الإجابة في عمل جديد وعلي ضوء ذلك يمكن أن يكون الحكم.
قصص محمد المر
تتمثل المحلية بمفهوميها الجغرافي والبشري كأوضح ما يكون في مجموعتين قصصيتين بعنوان (الفرصة الأخيرة ) و ( حب من نوع آخر) لمحمد المر ، وفيهما يحقق القاص أكثر من معادلة تميزه عن باقي كتاب القصة في الإمارات .
• فهو يلجأ إلي تصوير الواقع تصويراً فوتوغرافياً حياً دون أن يقع في مجانية السرد المباشر التي رأيناها في قصص المجموعة ( ذلك الزمان ) ودون أن تتحول القصة بين يديه إلي مقالة وعظية.
• وهو في تصويره للواقع يبتعد عن التجريد الذي رأيناه في بعض قصص المجموعة ( السباحة في عيني خليج يتوحش ) ، ويقدم لك ( المحلية ) بعفوية وصدق ، بعيداً عن التدخل الواعي في مسار الأحداث.
• وهو في محليته الخاصة جداً يرسم الملامح الجغرافية والبشرية لمدينة دبي ، تساعده في ذلك قدرته على التصوير والوصف فضلاً عن معرفته الواسعة بتاريخ المنطقة وإحاطته بعوامل التغير الاجتماعي التي كانت وراء الهجرة والهجرة المضادة من وإلي دبي، وانسجاماً مع متابعة الصورة المحلية التي يرسمها لدبي رأيناه يسعي أثر بعض أهلها ممن يسافرون إلي الخارج ، فيرسم بالدقة نفسها الأماكن التي يزورونها.
• وهو لا يكتفي في تصوير البيئة المحلية علي الذاتي والشخصي جداً ، بل خرج إلي دوائر أوسع ، في إشارات غير مباشرة ذات علاقة بالطبيعة الإنسانية ، ولكنك مع هذا لا تشعر بأنه يرغب في لعب دور الواعظ.
ومع كثرة ما تتضمنه المجموعتان من موروث شعبي إلا إنك تعجز عن رصد هذا الموروث رصدا إحصائيا لأن القصص مجبولة به ، على كل صعيد ، فأنت تجد وصفاً دقيقاً للحارات الشعبية في دبي قد لا تجده في الكتب التي أرّخت للمدينة ( الشندغة ، هور العنز ، ديره ، فريبج الضغانية ، السبخة ... الخ ) ثم تجد وصفاً للزواج وعاداته ووصفاً لبعض الاحتفالات الشعبية مع نماذج من أغاني الأطفال وألعابهم وتجد كذلك وصفاً لطريقة صنع البراجيل وأسماء عديدة لأمراض شعبية مع طرق علاجها وتجد وصفاً للطرق المتبعة في نقل البضائع من البواخر إلي الميناء وهناك ما يشبه الدراسة عن العلاقات الاجتماعية بين كل فريج وآخر ولا تعدم إشارات لهموم العمال العرب مع مرؤوسيهم الإنجليز ، وهناك المالد وأكل الهرب وطريقة نصب الخيم وإشارات لعملية الحجامة ومعالجة الجدري واستخدامات الزنجبيل وعلاج اللدغ بالكي ومهنة الدلالة وأغاني البحارة والعلاج بالأدعية مع وصف حي لرحلة صيد سمك وما يتعرض له الصيادون من مشاكل .
وبكلمة أخري ، أنت حيال موسوعة في تأريخ وتوثيق الموروث الشعبي تكتفي أحياناً بإشارات عابرة وتطنب أحياناً أخري في الشرج والتحليل والوصف دون أن تفقد الحد الأدنى من متطلبات التكنيك القصصي.
في قصته الأولي ( الفرصة الأخيرة ) ... والتي تحمل اسم المجموعة – يعدد القاص أنواع السمك المشهورة في الإمارات دون أن يشعرك بتطفل هذه الفقرة على السياق حيث ترد في موقعها تماماً في إطار وصفه للحياة اليومية الرتيبة التي يعيشها بطل قصته ، والتي تمر يومياً في أسواق اللحم والسمك والخضروات والفواكه في ديره – وهي احدي أهم متعة – فهو – أي بطل القصة حمد – خبير في الأسماك ( يفضل الزريدي والخباط والشعري وكيره الهامور ويمقت بشكل خاص الحلوايوه والبياح وهو يحب الأسماك التي تصاد بشباك القرقور ويشمئز من أسماك الحدق التي تصاد بالصنارة).
في هذه القصة معالجة دقيقة لمشكلة اجتماعية مستشرية وهي زواج الكبار من أجنبيات ، ولكن القاص يقوم المشكلة في إطارها الموضوعي والإنساني فيصف الحياة اليومية الرتيبة التي يعيشها بطل قصته، ثم إحساسه بالوحدة وشعوره بإنسانيته المتجددة مع عروسه الجديدة واختياره أسلوب الانتحار كخاتمة لمشكلة يصعب حلها .. ففي هذا الإطار الحي من المعالجة الدقيقة يتوقف القاص عند ملامح البيئة من حوله ويشخص لك كثيراً من ظواهرها ( السفر إلي الهند مثلاً ) ثم يعرج في وصفه على عادات شعبية طواها النسيان دون أن يقحمها علي السياق بل يعطيها فرصة التسلل بمشروعية إلي البناء الدرامي لتصبح من نسيجه.
( )
مثلاً .. وردت في مجموعته المذكورة إشارات لأمراض شعبية معروفة، مع علاجها ... ففي القصة الأولي يلتقي حمد مع أحد معارفه في الهند ويدور بينهما حوار الذكريات علي النحو التالي :
- لماذا أتيت للهند ؟
- لكي أتفرج.
- ها ، تتفرج ، كل الناس الذين يأتون هنا يتفرجون ولكنهم أيضاً يؤمنون مصالحهم مع الفرجة ، أين تسكن في دبي ؟
- أنا حمد بن سالم من الشذغة.
ينظر إليه وهو يحاول التذكر ثم تتهلل أساريره ويصيح :-
- المريض ؟
- ماذا ؟
- المريض ، المريض! كنت أعمل بحاراً في ( بوم ) خليفة بن سهيل وكنت مع زملائك مسافرين معنا لتعملوا في الكويت أصابك مرض (بوصفار) عشرة أيام ، مررنا بقطر والبحرين وأنت لا تأكل شيئاً وعيناك بلون الكركم هزلت وأصبحت لوحاً ، في الكويت أخذناك إلي أحد صاغة الفضة العمانيين الذي كان يتعاطي الطب الشعبي فكواك وعلي أثر الكي تعافيت).
في قصة ( أيام حارة ) ، يلعب ثلاثة صبية في الخور ويصاب أحدهم بمرض جلدي يرد ذكره في إطار حوار بين الصبية:-
- أنظر إلي ظهر أحمد مثل ظهر التمساح .
ضحك أحمد :
- هذه حبوب ( الحرار ) إذا حككتها احمرت وزادت اله يلعن هذا الحر).
- وفي القصة نفسها إشارة إلي مرض السعال الديكي ( بوحمير ) مع وصف لعلاجه (قال سالم : أخي الصغير مريض بالسعال الديكي ، يقولون أن مرقة سرطان البحر مفيدة له ، لنفتش عن أحدها .... الخ ).
في قصة ( الأب والابن ) – وهي من مجموعة ( حب من نوع آخر ) يرد ذكر ( الحجامة ) علي لسان طفل يصف جانباً من حياة الطفولة ، ومشاهداته في عصر كساد تجارة اللؤلؤ في الأربعينات .. وذكر الحجامة يأتي في إطار وصف الطفل لوالده على النحو التالي: ( في صباح يوم شتائي مشمس في زاوية منعزلة بالقرب من سوق السمك المجفف كان عيسي يراقب والده وهو يحتجم عند أحد الحجامين وكان شكل والده طريفاً وقرن الحجامة مركب علي الجزء المحلوق من رأسه، تذكر إحدى حكايات والدته عن الشيطان ذي القرنين ، والده كان يبدو كشيطان له قرن واحد ، بعد أن نزع القرن ، ظهرت ورمة صغيرة في رأس والده ، أخذ الحجام الموسى وجعل يضرب تلك الورمة ضربات الموروث الشعبى فى الأعمال الأبداعية لكتاب الإمارات صفحات من التراث الشعبى الإماراتى و أثره فى الأعمال الإبداعيه لكتاب الإمارات .
تتمات
فى الحلقة الماضية من هذه الدراسة ــ والتى تحمل الرقم خمسة ــ إختتمت الحديث عن إستخدام الموروث الشعبى المحلى فى الأعمال الإبداعية النثرية التى تشمل القصّة القصيرة والرواية و ضمنت المقالة إستعراضاً لبعض ماورد فى المجموعة القصصية ( الفرصة الأخيرة ) من هذا المأثور , و بقى لزاماً علينا , و كما أشرت التوطئة المنشورة فى الحلقة الأولى أن نتوقف عند الجزء الثانى من موضوع الدراسة وهو الخاص بإستخدام الموروث الشعبى فى الأعمال الشعرية وبعض الخواطر المنشورة هنا وهناك وبذلك تكون الصورة قد إكتملت و أصبحت النتائج طوع اليد .
لكن هذه النقلة إلى الشعر تلزمنى إستكمال ما قطعناه فى الحلقة الماضية تحت وطأة ضيق المساحة والإختصار الذى تتطلبه طبيعة المقال الصحافية , حيث لم نتطرق إلى جميع الأشارات الفلكلورية فى المجموعتين القصصيتين موضوع الدراسة وهما ( الفرصة الأخيرة ) و (حب من نوع آخر ) , و هى كثيرة و متنّوعة ومجبولة بالتكنيك القصصى كما سنرى فى سياق , حيث يرد المأثور الشعبى فى إطار نمو طبيعى و مقنع للأحداث ويتراوح هذا المأثور كما أسلفنا من ذكر العادات و التقاليد إلى وصف الأماكن الشعبية وجعلها محاور مكانية تتواقف مع أزمان القصص , فأنت تجد فى قصص ( الفرصة الأخيرة ) ذكراً لمعظم الحارات الشعبية فى دبى مثل ديرة , فريج الضغانية , السبخة وغيرها لابد أنك تجد وصفاً جغرافياً لخور دبى فى قصّة (من فوق ) " تسلل سالم وجمعة إلى داخل مئذنة الجامع الكبير فى بر دبى من قمة المئذنة أخذا يتفرجان بحبور على المناظر المتعددة التى لفتت أنظراهما , الخور بلونه الأخضر المشوب بالزرقة والعبرات و السفن التى تملؤه حركة و ضجيجاً , شكله من أعلى كثعبان طويل مستلق , ذنبه فى الخليج ورأسه فى الصحراء , بر ديره ببناياته المرتفعة , بر دبى , السوق القديم , قلعة الفهيدى , المقبرة القديمة ألخ . " .
يكثر القاص من وصف الأماكن فى إطار بناء قصصى ناضج , بحيث تشعر بمشروعية
تسلل هذه الأماكن إلى القصّة بإعتبارها موقع الحدث ففى قصة ( أيام حارة )
على سبيل المثال كان لابد و أن يذكر القاصى أسم المكان الذى يلتقى فيه
الصبية عندما يسبحون فى الخور وكان هذا المكان مبنى الإدارة ويستطرد القاصى
معرفاً ( المبنى كائن فى حى رأس بمنطقة الشندغة وقد تحوّل قبل سنة من مبنى
مراقبة لدائرة الجمارك إلى ناد أطلق عليه اسم نادى الهلال البحرى ) أمّا
فى قصّة ( ماذا قال ورّاد قبل أن يموت ) فيورد القاص وصفاً لحى ( قرطبة )
على لسان بطل القصّة ( أسكن الآن مع صاحبى صالح الذى يعمل حالياً كحارس
لإحدى مدارس البنات الإبتدائية فى حى قرطبة فى دبى حى صغير كلّه بيوت
شعبية بنفس التصميم الرتيب ولكن الناس بعد أن سكنوها غيروا أبوابها
وتصاميمها الخ ).
إيقاع السفر والتجوال يمكن أن تلمسه فى معظم قصص المجموعتين وهو يعكس واقعاً تاريخياً يرتبط بحياة البحر والتجارة والغوص على اللؤلؤ فضلاً عن الدلالات الإجتماعية التى يتضمنها وترتبط فى قصص محمد المر عملية السفر والترحال بمشكلة الزواج ، فقد رأينا أنّه يعالج فى قصّته الأولى مشكلة الزواج من الهنديات ، أمّا فى القصّة الثانية ( من فوق ) فالحديث ينصب على زواج النواخذا من امرأة إيرانية فى ميناء بندر عباس وتكاد تجد فى قصّة ( السر ) وصفاً كاملاً لحفلة عرس تؤدى فيها فرقة ( المالد ) عروضها مع ما يقدم هذه الإحتفالات من قهوة وشاى حيث ( يدورعلى الجمع شابان يحملان دلال القهوة والشاى ، أتى حاملوا البخور ومراش ماء الورد الخ ) ويذكر القاص نماذج من أناشيد الفرقة مع وصف لحالة المنشد أثناء الأداء على النحو التالى : ــ
زدنى بفرط الحب فيك تحيرا
وأرحم حشا بلظى هواك تسعرا
كان العرق يتصبب من وجه المنشد الذى أغمض عينيه وهو مستغرق فى إنشاده : ــ
إنّ الغرام هو الحياة فمت به
صبا فحقك أن تموت وتعذرا
باقى أعضاء الفرقة كانوا يقربون دفونهم من أكوام الجمر التى وضعت على الرسل أمامهم ويمسحونها بأكفهم : ــ
فدهشت بين جماله وجلاله
وغدا لسان الحال عنى مخبراً
توظيف العاب الاطفال الشعبية في الاعمال الابداعية
يكاد لا يجد المرء دراسة واحدة عن ألعاب الأطفال فى الإمارات ، باستثناء ما ورد فى كتاب ( التراث الشعبى ) ، لذا لا بد وأن يتوقف الباحث عند أى عمل إبداعى يذكر شيئاً من هذه الألعاب فى السياق الدرامى بإعتبار أنّ ما يرد هو جزء من الطموح بعملية مسح ميدانى أوسع لهذا المأثور الشعبى الهام الذى صدرت حوله فى الأقطار العربيّة المجاورة الكثير من الدراسات المطبوعة ، وأظن أن أيّة دراسة قادمة لألعاب وأغانى الأطفال فى الإمارات ستكون ملزمة بالتنويه بالقصّة القصيرة ( خروج ) من المجموعة القصصية ( الفرصة الأخيرة ) لأنها تذكر فى السياق الدرامى نصاً كاملاً لغناء يشترك فيه الأطفال بمناسبة خروج جاسم من السجن.
أغانى الأطفال ترد فى السياق ضمن موقف درامى مقنع ، فأم جاسم تقيم حفلاً بمناسبة خروج أبنها من السجن ، والقاص لا يكتفى بعرض نموذج كامل من أغانى الأطفال والراقصين بل هو يتوقف عند ظاهرة تعرفها الأعراس والمناسبات المماثلة فى الإمارات وهى إشتراك الرجال فى فرق تؤدى رقصات لا يرضى عنها العرف خارج نطاق الإحتفال حتى أنّ النساء ينتقدن ذلك ، فها هى سهام تبتسم وتقول لصاحبتها ( ليتنى أستطيع أن أرقص بمثل مهارته وأتثنّى بمثل ليونته ).
تغنى الفرقة مع الأطفال : ــ
يا عين يودان دانه اللدان هو بالمالوه
المغنى يغمض عينيه ويرفع صوته بفرح
يا عين يوخلى وانته الخليل هو بالماليه
يا عين صدقت قول المواشى هو بالماليه
يا عين وادعيت قلبى عليل هو بالماليه
الأطفال والفرقة : ــ
يا عين يودان اللدان هو بالماليه الخ
لا يكاد المرء يذكر ظاهرة إجتماعية أو إقتصادية واحدة عرفها مجتمع الإمارات فى زمن الغوص على اللؤلؤ الاّ ويجدها فى قصص المجموعتين وقد وردت فى سياق قصصى واقعى يُعنى كثيراً بتوثيق الظاهرة فى ذات الوقت الذى يستفيد فيه البناء الدرامى من إيرادها ، فأنت تجد فى قصّة ( أيام حارة ) وفى معرض وصف الحياة اليومية للصبية الثلاثة سالم وأحمد وعلى إشارة على ( البراجيل ) و ( المهاف ) المصنوعة ( من أكياس الطحين أو خيش الفحم ) وفى القصّة نفسها تجد وصفاً دقيقاً لعملية نقل البضائع آنذاك باستخدام سفينة صغيرة بمحرك تجر وراءها شاحنة مملوءة بالبضائع الأولى تسمّى ( تلك ) والثانية ( دوبة ) ويردف القاص ( تلك كانت الطريقة الوحيدة لنقل البضائع من البواخر التى لا تستطيع دخول الخور الضحل فترسو بعيدة عن الشاطىء وتذهب لها ( التكات ) و ( الدوب ) لكى تنقل منها البضائع إلى منطقة الجمارك ).
إيقاع السفر والتجوال يمكن أن تلمسه فى معظم قصص المجموعتين وهو يعكس واقعاً تاريخياً يرتبط بحياة البحر والتجارة والغوص على اللؤلؤ فضلاً عن الدلالات الإجتماعية التى يتضمنها وترتبط فى قصص محمد المر عملية السفر والترحال بمشكلة الزواج ، فقد رأينا أنّه يعالج فى قصّته الأولى مشكلة الزواج من الهنديات ، أمّا فى القصّة الثانية ( من فوق ) فالحديث ينصب على زواج النواخذا من امرأة إيرانية فى ميناء بندر عباس وتكاد تجد فى قصّة ( السر ) وصفاً كاملاً لحفلة عرس تؤدى فيها فرقة ( المالد ) عروضها مع ما يقدم هذه الإحتفالات من قهوة وشاى حيث ( يدورعلى الجمع شابان يحملان دلال القهوة والشاى ، أتى حاملوا البخور ومراش ماء الورد الخ ) ويذكر القاص نماذج من أناشيد الفرقة مع وصف لحالة المنشد أثناء الأداء على النحو التالى : ــ
زدنى بفرط الحب فيك تحيرا
وأرحم حشا بلظى هواك تسعرا
كان العرق يتصبب من وجه المنشد الذى أغمض عينيه وهو مستغرق فى إنشاده : ــ
إنّ الغرام هو الحياة فمت به
صبا فحقك أن تموت وتعذرا
باقى أعضاء الفرقة كانوا يقربون دفونهم من أكوام الجمر التى وضعت على الرسل أمامهم ويمسحونها بأكفهم : ــ
فدهشت بين جماله وجلاله
وغدا لسان الحال عنى مخبراً
توظيف العاب الاطفال الشعبية في الاعمال الابداعية
يكاد لا يجد المرء دراسة واحدة عن ألعاب الأطفال فى الإمارات ، باستثناء ما ورد فى كتاب ( التراث الشعبى ) ، لذا لا بد وأن يتوقف الباحث عند أى عمل إبداعى يذكر شيئاً من هذه الألعاب فى السياق الدرامى بإعتبار أنّ ما يرد هو جزء من الطموح بعملية مسح ميدانى أوسع لهذا المأثور الشعبى الهام الذى صدرت حوله فى الأقطار العربيّة المجاورة الكثير من الدراسات المطبوعة ، وأظن أن أيّة دراسة قادمة لألعاب وأغانى الأطفال فى الإمارات ستكون ملزمة بالتنويه بالقصّة القصيرة ( خروج ) من المجموعة القصصية ( الفرصة الأخيرة ) لأنها تذكر فى السياق الدرامى نصاً كاملاً لغناء يشترك فيه الأطفال بمناسبة خروج جاسم من السجن.
أغانى الأطفال ترد فى السياق ضمن موقف درامى مقنع ، فأم جاسم تقيم حفلاً بمناسبة خروج أبنها من السجن ، والقاص لا يكتفى بعرض نموذج كامل من أغانى الأطفال والراقصين بل هو يتوقف عند ظاهرة تعرفها الأعراس والمناسبات المماثلة فى الإمارات وهى إشتراك الرجال فى فرق تؤدى رقصات لا يرضى عنها العرف خارج نطاق الإحتفال حتى أنّ النساء ينتقدن ذلك ، فها هى سهام تبتسم وتقول لصاحبتها ( ليتنى أستطيع أن أرقص بمثل مهارته وأتثنّى بمثل ليونته ).
تغنى الفرقة مع الأطفال : ــ
يا عين يودان دانه اللدان هو بالمالوه
المغنى يغمض عينيه ويرفع صوته بفرح
يا عين يوخلى وانته الخليل هو بالماليه
يا عين صدقت قول المواشى هو بالماليه
يا عين وادعيت قلبى عليل هو بالماليه
الأطفال والفرقة : ــ
يا عين يودان اللدان هو بالماليه الخ
لا يكاد المرء يذكر ظاهرة إجتماعية أو إقتصادية واحدة عرفها مجتمع الإمارات فى زمن الغوص على اللؤلؤ الاّ ويجدها فى قصص المجموعتين وقد وردت فى سياق قصصى واقعى يُعنى كثيراً بتوثيق الظاهرة فى ذات الوقت الذى يستفيد فيه البناء الدرامى من إيرادها ، فأنت تجد فى قصّة ( أيام حارة ) وفى معرض وصف الحياة اليومية للصبية الثلاثة سالم وأحمد وعلى إشارة على ( البراجيل ) و ( المهاف ) المصنوعة ( من أكياس الطحين أو خيش الفحم ) وفى القصّة نفسها تجد وصفاً دقيقاً لعملية نقل البضائع آنذاك باستخدام سفينة صغيرة بمحرك تجر وراءها شاحنة مملوءة بالبضائع الأولى تسمّى ( تلك ) والثانية ( دوبة ) ويردف القاص ( تلك كانت الطريقة الوحيدة لنقل البضائع من البواخر التى لا تستطيع دخول الخور الضحل فترسو بعيدة عن الشاطىء وتذهب لها ( التكات ) و ( الدوب ) لكى تنقل منها البضائع إلى منطقة الجمارك ).
فى قصّة ( يوميات كئيبة وحزينة ) أكثر من ميزة واحدة فهى ــ على صعيد
المضمون ــ غنية بوصف دقيق لدبى والعادات الإجتماعية فيها فى الفترة من 6
أكتوبر 1954 إلى 2 نوفمبر 1954 وهو وصف يرد على لسان لارى وايلد وهو شاب
بريطانى جاء إلى دبى للعمل فى إحدى الشركات الإنجليزية وفقد فيها ولم يعثر
المحققون إلاّ على مذكراته التى نشرتها جريدة التمايز عام 1954 القاص محمد
المر يقدم شكلاً جديداً لقصّة من خلال ترجمة الوثيقة أو المذكرات وهى
تحمل الكثير من الدلالات الإجتماعية والسياسية التى ــ من المؤكد ــ أن
القاص أراد توصيلها للقارىء.
الإشارة إلى مرحلة من تاريخ المنطقة تواجد فيها الإنجليز ترد أيضاً فى قصّة ( جنسيّة ) وفيها يصف القاص شعور المواطنين حيال المستعمر فى نهاية الأربعينات ( عندما أرادت الحكومة الريطانية أن تنشىء مدرجاً للطائرات فى ديرة فعمل كثير من المواطنين فى تسوية الأرض بجهودهم العضلية وبدون ألات ).
فى قصّة ( ماذا قال وراد قبل أن يموت ) يستنطق القاص كلباً محلياً من دبى ، ويصوّر من خلال ذلك حالات إجتماعية كثيرة سادت آنذاك ويتطرق إلى وباء أصاب حيوانات المنطقة وأشار إلى ردّة فعل الناس آنذاك وحمّل القاص هذا الإستنطاق الكثير من الرموز الشفافة فوصف لنا الكثير من العادات والتقاليد السائدة وأستغرق أهتمامه بوصف حى ( الشندغة ) عدّة فقرات ويلاحظ أن القاص حريص على ذكر هذا الحى فى معظم قصصه فهو يفعل ذلك فى قصّة ( السر ) من خلال عرض حى ومؤثر لشخصية سليمان الأحمر.
بكلمة أخُرى فإن مدينة ( دبى ) تجدها حيّة بجغرافيتها البشرية فى قصص محمد المر ، وقد أعطى الموروث الشعبى الذى لا يستخدمه القاص بكثرة فى السياق حيوية للشخوص وواقعية للأحداث ، حتى أنك لا تستطيع أن تفصل الموروث عن الحدث أو عن الشكل ، فكل ذلك تداخل فى إطار العمل القصصى ، وحمل بالتالى جزءاً من مكوناته وعناصره 00 ومن المسلّم به أن القاص غير معنى بتوظيف المأثور الشعبى ليلعب دور الرمز ــ كما لاحظنا فى بعض قصص عبد الحميد أحمد ــ رغم أننا نلمس شيئاً من هذا القبيل فى قصّته عن ورّاد أو فى ترجمته القصصية لمذكرات الإنجليزى ، فالرمز هنا يرد عفو الخاطر 00 والموروث الشعبى يلعب دوره كواحد من عناصر المكان والزمان فى القصّة ولا يخرج بالتالى إلى المعادل الرمزى الذى سنجده فى الأعمال الشعرية مثلاً.
هوامــــش
الإشارة إلى مرحلة من تاريخ المنطقة تواجد فيها الإنجليز ترد أيضاً فى قصّة ( جنسيّة ) وفيها يصف القاص شعور المواطنين حيال المستعمر فى نهاية الأربعينات ( عندما أرادت الحكومة الريطانية أن تنشىء مدرجاً للطائرات فى ديرة فعمل كثير من المواطنين فى تسوية الأرض بجهودهم العضلية وبدون ألات ).
فى قصّة ( ماذا قال وراد قبل أن يموت ) يستنطق القاص كلباً محلياً من دبى ، ويصوّر من خلال ذلك حالات إجتماعية كثيرة سادت آنذاك ويتطرق إلى وباء أصاب حيوانات المنطقة وأشار إلى ردّة فعل الناس آنذاك وحمّل القاص هذا الإستنطاق الكثير من الرموز الشفافة فوصف لنا الكثير من العادات والتقاليد السائدة وأستغرق أهتمامه بوصف حى ( الشندغة ) عدّة فقرات ويلاحظ أن القاص حريص على ذكر هذا الحى فى معظم قصصه فهو يفعل ذلك فى قصّة ( السر ) من خلال عرض حى ومؤثر لشخصية سليمان الأحمر.
بكلمة أخُرى فإن مدينة ( دبى ) تجدها حيّة بجغرافيتها البشرية فى قصص محمد المر ، وقد أعطى الموروث الشعبى الذى لا يستخدمه القاص بكثرة فى السياق حيوية للشخوص وواقعية للأحداث ، حتى أنك لا تستطيع أن تفصل الموروث عن الحدث أو عن الشكل ، فكل ذلك تداخل فى إطار العمل القصصى ، وحمل بالتالى جزءاً من مكوناته وعناصره 00 ومن المسلّم به أن القاص غير معنى بتوظيف المأثور الشعبى ليلعب دور الرمز ــ كما لاحظنا فى بعض قصص عبد الحميد أحمد ــ رغم أننا نلمس شيئاً من هذا القبيل فى قصّته عن ورّاد أو فى ترجمته القصصية لمذكرات الإنجليزى ، فالرمز هنا يرد عفو الخاطر 00 والموروث الشعبى يلعب دوره كواحد من عناصر المكان والزمان فى القصّة ولا يخرج بالتالى إلى المعادل الرمزى الذى سنجده فى الأعمال الشعرية مثلاً.
هوامــــش
1- انظر السلسلة التي نشرت في جريدة البيان بعنوان ( مدخل لدراسة التراث الشعبي في الامارات ) و ( الطب الشعبي والتداوي بالأعشاب في الامارات )
2- مثل الدراسات الفلكلورية الفلسطينية والدراسات النقدية التي حاولت أن تبحث عن المعادل الفني لتوظيف الموروث الشعبي الفلسطيني في قصائد شعراء الأرض المحتلة ، كما كان لبعض الدراسيين هدف أخر وهو تكريس الهوية الفلسطينية في مواجهة محاولة العدو محاولة العدو الصهيوني الرامية إلى سرقة وانتحال الموروث الشعبي الفلسطيني .. ولعل هذا يفسر السر في أن الشاعر علي الخليلي يعتبر من المع دارسي الفلكلور في فلسطين أما اهتمام الشاعر توفيق زياد بالموروث الشعبي فيمكن التعرف عليه من خلال قصائده التي تكثر فيها التضمينات الفلكلورية ثم من خلال ما كتبه لفي مؤلفه ( صورة من الأدب الشعبي الفلسطيني ) / المؤسسة العربية للدراسات والنشر .
3- نوقشت الرسالة في جماعة بغداد ومنح صبري مسلم درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف .
4- مثلا ... اكتفيت بتناول عمل أدبي واحد للدكتور مانع الحتيبة هو ( المسيرة ) لانه اقرب أعماله الشعرية لموضوع هذه الدراسة .... في حين لم نتطرق لرواية ( الاعتراف ) لعلي أبو الريش لعدم تمكننا من الحصول علي نسخة مطبوعة منها .
5- في الامارات عدد لا باس به من الكتاب العرب ومنهم من حصل علي جنسية الدولة ، وبعضهم قضي ما يزيد عن خمس عشرة سنة في الدولة مثل الشاعر عبد المنعم عواد يوسف ومن غير المعقول تجاهل دواوينه في دراسة كهذه ، لكن بالمقابل لا يمكن إخضاع دواوينه الشعرية للمعايير ذاتها التي نخضع لها دواوين الصايغ علي سبيل المثال .
6- انظر كتاب / الفلكلور ما هو ؟ / دار المعارف / 1964 م .
7- انظر الرمز الأسطوري في شعر السياب / الدكتور علي البطل / شركة الربيعان للنشر / 1982
8- رواية شاهندة / ص3
9- انظر صفحة 8 وما بعدها في الرواية .
10- ص 27 ـ الرواية
11- ص 29 ـ الرواية
12- ص 31 ـ الرواية
13- ص 52 ـ الراوية
14- ص 47 ـ الرواية
15- ص 34 ـ الرواية
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق